أطباء ..«للزكام فقط»! (3)

من قسم منوعات
الإثنين 31 مايو 2010|

أدرك الأطباء من قرون طويلة أن مهنتهم مختلفة عن المهن الأخرى، لأن الطبيب يملك قوة هائلة في التأثير في حياة مرضاه، ولأن الطبيب يمكنه أن يقرر ما يريد على المريض دون الكثير مما يملكه المريض لتغيير ذلك إلا الهرب إلى طبيب آخر إذا استطاع ذلك.

لهذا حاول المخلصون من الأطباء إيجاد مواثيق مهنية تلزم الطبيب بألا يستغل هذه الامتيازات ليملكها فلا يقرر من يعالج ومن لا يعالج، وأن يبذل كل جهد ممكن لمعالجة المريض بعيدا عن أي اعتبارات.

هذه المواثيق قديمة ولم تلق نصيبها من التجديد، وذلك لأنها نشأت في وقت لم يكن فيه الطب قطاعا تجاريا ضخما، ولم يكن الإغراء المادي هائلا للطبيب، ولم يكن أمام الطبيب خيارات كثيرة يستطيع من خلالها تأسيس ثروة ضخمة على حساب المريض.

في أمريكا وأوروبا هناك نقاش علمي وسياسي وفكري مكثف حول هذا الموضوع، لكن الحل جاء في الحقيقة من صناعة التأمين التي صارت تدفع الفاتورة فعينت الخبراء والمستشارين وأسست القواعد والأنظمة التي تحاصر شجع الأطباء او استهتارهم أو جهلهم، وهذا كان لصالح المريض بالدرجة الأولى، وإن كان لم يحم المرضى تماما، فالطبيب الجشع يجد دائما طرقا للالتفاف حول شروط شركات التأمين، بما في ذلك إجراء عمليات جراحية لا حاجة لها للحصول على بعض الآلاف الإضافية.

في العالم العربي، ما زالت صناعة التأمين ناشئة، وما زالت تنعم بالأرباح دون بيئة قانونية تحمي المريض ضد شركات التأمين، فبينما في أمريكا تعتبر دعاوى الناس ضد شركات التأمين هي واحدة من الأعلى تكرارا بين الدعاوى القضائية، لا يكاد يكون ممكنا فعل ذلك في أي دول عربية _ بشكل عملي لأنه ليس عمليا أن ترفع دعوى تكلفك جهدا وأموالا أكثر بكثير من قيمة الدعوى.

ولهذا شركات التأمين العربية ليست تحت ضغط الجماهير، وهذا يجعل ضغطهم على الأطباء مركزا على محاولة منع التكاليف الباهظة فقط.

المشكلة في العالم العربي أيضا أن كثيرا من العمليات الحرجة تحصل خارج إطار التأمين، وهذا يعطي بعض الأطباء الفرصة للتلاعب إذا كان الوازع الأخلاقي غائبا عنهم.

هناك مشكلة أخرى في العالم العربي تأتي من انتشار الطب الخاص، وهو طب أيضا ليس عليه رقابة تذكر، ويعيش في ظل جشع المستثمرين في المستشفيات الخاصة، والتي تعين أطباء غير مؤهلين ليدفعوا رواتب منخفضة جدا، ثم يبدأ مسلسل استنزاف المريض بطرق لم تعد تخفى على المواطن العربي الذي مر بهذه الحكايات بطريقة أو بأخرى.

هذا المسلسل يضع في النهاية ضغطا كبيرا على الطبيب المسكين الذي يجد نفسه مضطرا لمسايرة إدارة المستشفى، وخاصة في ظل الحوافز المادية التي تعطيه نسبة تلك الدخول المبالغ فيها.

في أمريكا هناك نقاش متصاعد من جديد حول هذه القضية، وذلك لأن أوباما حاول التطرق لهذه القضية عدة مرات ضمن دفاعه عن خطته للرعاية الصحية والتي مثلت انتصارا هائلا له، وهو في الغالب تعرض لهذه القضية لكي يكسب تعاطف الجماهير، ولأن التأمين الوطني الذي تتحكم فيه الحكومة تعني المزيد من محاصرة الأطباء.

خلال هذا العام، حصل مؤتمر في أمريكا تحدث عن أن الأنظمة الموجودة لمكافئة الأطباء متوافقة في نتائجها مع جوهر المواثيق الطبية والتي تفترض أن الطبيب يعمل في الأساس لرسالته وليس للكسب المادي، وتم ترجمة هذا المؤتمر من خلال مقال غاضب في “نيويورك تايمز”.

المشكلة أن الرد جاء سريعا على هذا المقال وهو رد صحيح، وهو أن الطب يتطلب ذكاءا متفوقا وجهدا كبيرا في الدراسة وسنوات من الصبر _ عندما تكون الجامعة مميزة وهذا ليس الوضع الشائع حاليا _ ولذا فإن تقليل مكاسب الأطباء يعني تنفير الأذكياء والصبورين من مهنة الطب، وخاصة في ظل حالة عالمية من ندرة الأطباء مقارنة باحتياج الناس، حسب معايير منظمة الصحة العالمية.

في استفتاء أوروبي ضخم وشهير موله الاتحاد الأوروبي، قالت الجماهير الأوروبية بأنهم يفضلون “رفع مستوى الرعاية الصحية” على “التحكم في تكاليف الرعاية الصحية” لأن الناس يرعبها أكثر أن ينخفض مستوى الطب، ومستعدة لأن تدفع على أن تحصل على الطب الجيد.

هذا بالضبط ما يفهمه الأطباء جيدا، وصار الذكي غير الأمين منهم يتقن خلق صورة ذهنية إيجابية عنه باستخدام مختلف طرق الدعاية والعلاقات العامة ورسم الصورة الذهنية _ وهذا ينطبق على المستشفيات _ ليشعر الناس بالأمان والاطمئنان، ولو كلفهم هذا مالا أكثر، فالمال لا يساوي شيئا للناس مقابل صحتهم وصحة الغاليين عليهم.

لو تأملت المقالات الكثيرة حول هذا الموضوع لوجدت أن الحل مرتبط بأمرين اثنين: الأول هو العمل على زيادة الوازع الأخلاقي لدى الأطباء، والبحث عن طلبة الأطباء المعروفين بالخلق الحميد، والاهتمام بذلك كما يتم الاهتمام بالقدرة العلمية.

والثاني إيجاد أنظمة وقيود وحوافر وأساليب عقاب ضد الأطباء الذين يتجاوزون المنطق والمعقول لزيادة مكاسبهم المالية دون أدنى اهتمام بالجودة ومصلحة المريض.

في رأيي العلاج العملي في ظل أوضاع عالمنا العربي هي إيجاد لجان من أطباء أكفاء ذوي خلق وسمعة طيبة يقومون باستقبال شكاوى الناس فيما يشبه المحكمة وذلك بسرعة وفعالية، وتكون لقرارتهم قوة تنفيذية، ومن ورائهم باحثين يعملون ليل نهار على وضع ضوابط علنية تحكم هذه القرارات وتكون معروفة للخصم والضحية.

بدون ذلك أستبعد أن تحسينا كبيرا سيحصل في معظم الدول العربية خلال السنوات القادمة لأن الحلول التي يتحدث عنها الغربيون بعيدة تماما عن منطق الأمور في عالمنا العربي.

في الأسبوع القادم سأختم سلسلة المقالات هذه بحديث عن الجانب المضيء عن الطب في المملكة العربية السعودية، والذي يقابل الجانب السلبي الذي تناولته في مقالاتي الثلاث، مع شكري لكل الذين تجاوبوا وتضامنوا وأيضا لمن اعترض وانتقد فالاختلاف لا يفسد للود قضية..

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية