من أجمل الأمور التي تمتع بعض المسافرين والسياح أن يفهموا المدن والقرى التي يزورونها، وأن يكونوا عنها انطباعاً ما في نفوسهم، حيث تجدهم يبحثون عن الشواهد التي تؤيد فهمهم للمدن وأهلها كما كان يبحث أبطال رواية “شيفرة دافنشي” عن شواهد حكايتهم.
بعض الناس تجده ماهراً في فهم المدن وتنوعها وعمقها وبعض الناس تجده سطحياً يتأثر بموقف واحد أو شخص قابله فيطلق أحكامه الهوجاء التي لا قيمة لها ولا معنى.
أحد الطرق التي أقترحها لمحاولة فهم المدن، هي أن تفهمها كما تفهم النساء، تماماً كما أن الرجل يتعرف على المرأة يوماً بعد يوم، يبحث دائماً عن المؤشرات التي تساعده على فهمها، يتأمل فيها وفي تصرفاتها وحديثها ليل نهار، ويميل معها حيث تميل حتى يعرف ما تريد وكيف تفكر ومن أين تنطلق، فإن الأمر نفسه ينطبق على المدن.
أجمل ما في النساء أنهن لا يتشابهن، فلكل امرأة عالمها الخاص وطريقة تفاعلها الخاصة مع الأمور، ولها منطقها الخاص في ما يجري من حولها، وكذلك المدن.
بعض المدن عاطفية، تمضي في شوارعها فتنطلق عواطفك معها، تجد نفسك جاهزاً للبكاء والتأثر في أي لحظة، وجاهزاً للفرح والحب في أي لحظة أخرى، لكن هذه المدن، كالنساء تماماً، قد تقبل عليك أحياناً حتى تظن نفسك حبيبها المدلل، وقد تدبر أحياناً أخرى فتشعر بأنك منبوذ وحيد، ومع ذلك تعود إليها أملاً في لحظات حبها ودلالها.
بعض المدن جافة، تتعامل معك بطريقة منطقية منظمة، وبعضها عبوس، لا تصدق متى تهرب منها، وبعضها عملي أكثر من اللازم، تجلس معها على الطاولة فلا تتحدثون إلا في قضايا العمل، بينما بعض المدن لا تتوانى عن صفعك كلما أخطأت فلا تشعر بالأمان ولا الاسترخاء أبداً.
بعض المدن الأخرى ناعمة، تشعر معها أنك تنطلق على أريحيتك، تضحك فلا تغضب منك، تسترخي فلا تغضب منك، وأحياناً تكون في منتهى الغباء فلا تجد إلا ابتسامة راضية.
وبعض المدن ذكية ساخرة تشعر أمامها أنك ضئيل، وأنك يجب أن تبذل جهداً كبيراً حتى تستطيع مجاراتها، تمضي كالطوفان بسرعة وحيوية هائلة، وعندما ينتابك الإرهاق تجد أن المدينة لا تنتظرك.
بعض المدن تحب الليل، تحب أن تسهر معك وتضحك من أجلك، تشعر معها بالمجون وتتمنى أن تفقد عقلك لأنك لا تحتاجه، بينما بعض المدن تحب النهار، تنتعش فيها رائحة القهوة الصباحية، وتستمتع بالشمس فإذا أقبل الليل انتابها النعاس والهدوء المطبق.
وبعض المدن شابة فتية، فيها حيوية تدهشك، تضحك دائماً وتعمل دائماً وتتطور دائماً، وبعض المدن تعاني من التقدم في العمر والشيخوخة، وكل شيء يمضي فيها ببطء شديد، لا تتعلم شيئاً ولا تختلف مع السنين، بل تتذكر دائماً أيام الماضي التي خلت.
بعض المدن مشاغبة وبعضها جادة ملتزمة، بعضها متدينة، وبعضها فاسقة، بعضها عبقري وبعضها غبي، بعضها لها شعر أشقر ذهبي يتلألأ في الماء وبعضها شعرها كستنائي، بعضها أسمر وبعضها أبيض، بعضها ذات عيون ساحرة وبعضها لها عيون بنية متلألئة بأثر السنين.
أياً كانت مدينتك المفضلة وأياً كانت المرأة التي تجد معها نفسك، فالأمر سيان، لأن النساء تلتقي مع المدن فتتمازج ويصبح النبض واحداً والروح واحدة.
إن أجمل ما يميز المدن نساؤها؛ فالنساء تصنع نبضها وحيويتها وعاطفتها لتقارب الطباع بين المدن والنساء، وإذا حكم الرجال المدينة أصبحت كالمرأة المقهورة التي لا تستطيع أن تعبر عن شخصيتها حتى تغضب يوماً غضبتها الأخيرة وتتمرد على سي السيد.
أعشق اكتشاف المدن !
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية