كنت جالسا الأسبوع الماضي مع مجموعة كبيرة من الأصدقاء وسألتهم عن معنى “الغيرة”، وتفاوتت الآراء بشكل مثير، ودار النقاش ساخنا، ويمكنك أن تعيش التجربة نفسها لو سألت أصدقائك السؤال نفسه.
الطريف في كلمة الغيرة أن معانيها تتفاوت من المعنى الإيجابي جدا حيث يشعر الزوج أو الزوجة بـ”الغيرة” على شريك الحياة خوفا من أعين المنافسين والطامعين فيه إلى المعنى السلبي جدا الذي يشابه معاني الحسد والحقد عندما يغار مثلا زميل من زميله في العمل فيعمل على تدمير حياته.
الغيرة في النهاية هي ذلك الشعور النفسي الصعب الذي يغزو معقل ثقة الإنسان بنفسه ويشعره بالضعف عندما يقارن نفسه بالآخرين، وهذا الشعور قد يكون طبيعيا، كما قد يكون مرضيا، حين يزيد عن حده ويتحول إلى عامل مدمر للشخص وحياته الزوجية وعلاقاته الاجتماعية وحتى مستقبله المهني أحيانا.
لهذا السبب تحول علاج الغيرة المفرطة إلى عمل تجاري _ وفي معظم الأحيان استغلالي _ في الغرب، حيث توجد مؤسسات علاجية متخصصة في التعامل مع الغيرة، بعضها يركز على زيادة الثقة في النفس وأخرى تركز على التفكير العميق في المواقف بحيث يصل الإنسان إلى قناعة “عقلية” بأن الغيرة هي رد فعل غير صحيح، وثالثة تركز على تصحيح السلوكيات الاجتماعية للإنسان الغيور بحيث لا تفضح سلوكياته غيرته، ورابعة تدعي أن لديها أسرار حل المشكلة بعد سنوات من البحث والتنقيب، ولكنها لا تكشف عن طبيعة العلاج الذي تطرحه، أنظر مثلا هذا الموقع: www.nomorejealousy.com، والذي يدعي أن حل المشكلة سهل وسريع إذا استخدمت حلوله السحرية الخفية.
كثير من هذه البرامج تركز على المرأة أكثر من الرجل، ورغم أن الرجل لا يقل غيرة عن المرأة، وإن كانت غيرته تأخذ عادة أشكالا ومواقف مختلفة، إلا أن المرأة اشتهرت بالغيرة أكثر، الغيرة على شريكها في الحياة من أن “تطير عيناه” إلى امرأة أخرى، والغيرة من النساء الأخريات عموما حين تقارن نفسها بهن وتشعر بأنها “أقل جاذبية” منهن.
هناك أيضا برامج علاجية لمساعدة الذين يعانون من غيرة الآخرين، أي الرجال الذين يريدون اتخاذ التصرف المناسب نحو زوجاتهم المفرطات في الغيرة، أو النساء اللاتي يشعرن بالعزلة في الحياة الاجتماعية أو مكان العمل بسبب غيرة النساء الأخريات من جمالهن والميزات التي يستمتعن بها.
بعض التعريفات التي تتحدث عن الغيرة تركز على جانب الحماية، حماية العلاقة الحميمة والشخصية بين الرجل والمرأة من الآخرين، وإذا كان البعض يفرط في الحماية، فإن هؤلاء الذين يفكرون بهذا الشكل لا يرون عادة في ذلك أي إشكال، لأن المخاطر على العلاقة من الآخرين المنافسين أو حتى العابرين لا تعد ولا تحصى في رأيهم وكل ما يبذل من جهد للوقوف في وجهها يبدو لهم مبررا.
مشكلة هؤلاء الذين يرون في غيرتهم حماية للعلاقة، أن هذه الرؤية قد لا تكون موجودة عن الطرف الآخر _ الزوج أو الزوجة _ بل بالعكس يرى الطرف الآخر الأمر على أنه نقص ثقة به وحبه المتين، وفي هذه الحالة تتحول الغيرة إلى عامل مدمر وخفي للعلاقة الزوجية يعمل على مر السنوات على فتح الثغور فيها.
بل إن أحد الذين كتبوا عن الغيرة كان يقول بأن الغيرة المفرطة من الزوجة على الزوج، أو العكس، تدفع الزوج عادة للخيانة والبحث عن علاقات أخرى لأنه يشعر بأن زوجته لا تثق به على أي حال، وهي في الغالب تصور له أن كل النساء يبحثن عنه وينتظرن لحظة الانقضاض على علاقتهم، ولذا لا يرى الزوج مبررا للإخلاص ما دامت الثقة مفقودة على كل حال.
شعور الغيرة هو شعور معقد تتداخل فيه مشاعر متعددة في نفس الوقت، ولذا كان دائما جذابا للباحثين والمؤلفين، وهو شعور يدوم أحيانا طويلا دون أن يفقد قوته الأصلية، وهذا ما يجعله مختلف عن مشاعر مثل الغضب أو الفرح التي تبقى لفترات قصيرة.
الطريف أيضا في الغيرة أنها من أول المشاعر التي تنشأ في الإنسان حيث تبدأ في الطفل منذ أن يكون عمره خمسة أو ستة أشهر وتبقى حتى لدى كبار السن الذين تجاوزوا السبعين أو الثمانين.
لقد جذبت “الغيرة” علماء النفس الذين حاولوا فهم الدوافع النفسية للغيرة وعلاجها، وعلماء الاجتماع الذين يؤكدون أن ثقافة المجتمع هي التي تحدد العوامل التي تخلق الغيرة ورد الفعل نحوها، وعلماء الطب الذين بحثوا عن الهرمونات والتغيرات الداخلية الجسدية التي تنشأ لدى الإنسان في موقف الغيرة، وعلماء الدين الذين شرحوا علاج الغيرة في النصوص المقدسة، وأخيرا الفنانين الذين كثيرا ما تناولوا الغيرة في فنهم وغنائهم ورسمهم ونحتهم وموسيقاهم وكتبهم.
في الأسبوع القادم سأتناول ما تقوله الدراسات العلمية النفسية والاجتماعية عن الغيرة، حيث توجد بعض النتائج المثيرة فعلا للانتباه.
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية