خلال السنوات الأخيرة، ظهرت آلاف المقالات والكتب حول التطوير والإصلاح ومعالجة مشاكل العرب التي تعقدت وتداخلت حتى صارت مثل كومة ضخمة من الأسلاك المتشابكة لا تعرف كيف تبدأ في فكها، لكن الملاحظ أن معظم هذه الكتابات _ بما فيها كتاباتي _ تركز على نقد المجتمع ونقد الأنظمة ونقد القوانين والإجراءات الحكومية، وتنسى الوحدة الأساسية في التطور والتخلف وهي: الفرد نفسه.
بمعنى أصح؛ كل الظواهر الاجتماعية، هي عبارة عن سلوكيات فردية متكررة، فظواهر التعامل السيء مع المرأة هي عبارة عن سلوكيات لأفراد لديهم دوافع نفسية واجتماعية وثقافية تجعلهم أشخاص سيئين في تعاملهم مع المرأة أو حتى الآخر أو العمال أو الناس في الشوارع أو غيره.
الكتابات التي تتناول معالجة هذه الظواهر تتكلم عن تطوير المجتمع، وتطوير الأنظمة والقوانين، ولكنها من النادر أن تتكلم عن الدوافع النفسية التي جعلت الفرد يتصرف بطريقة خاطئة.
بكلمات أخرى أكثر دقة، لو كانت سلوكيات الأفراد إيجابية لوجدت مجتمعا متطورا.
الأفراد هم أساس المشكلة، وسلوكياتهم هي التي يجب التركيز عليها بشكل خاص لإصلاح المجتمع.
لقد جاءت أزمات العراق ولبنان لتكشف أنه عندما تكون سلوكيات الأفراد غير متطورة أو متحضرة فإنه في أول أزمة، ستنقلب الأمور إلى أسوأ ما يمكن أن تكون عليه، وهذا لا يخص دولة عربية عن الأخرى، بل هي حالة عامة تنتظر الظروف التي تفجرها.
هناك علم متفرع من علم النفس الاجتماعي اسمه علم السلوك يتناول قضايا تغيير سلوك الأفراد، والغريب أن أكثر من يركز على تغيير سلوك الأفراد في العالم العربي وهم المصلحون الدينيون يفعلون ذلك بشكل خاطئ تماما، لأنهم يحاولون استخدام “الضغط الاجتماعي” لتغيير السلوك، بمعنى أنهم يحاولون أن يجعلوا الأفراد في حالة خجل من المجتمع في فعل السيئات، ويستخدمون الترهيب والترغيب بشكل مكثف جدا، بينما لا يحاولون معالجة المشكلة بحيث يتحول السلوك الجيد إلى قناعة داخلية عميقة.
قد يخجل الشخص من الناس بحيث لا يهين الناس في الطريق _ على سبيل المثال _ وقد يرتفع الوازع الديني عند الشخص فيتذكر الثواب والعقاب، ولكنه من النادر أن يكون قد تشبع بالإيمان بالفكرة بحيث يراها أمرا سيئا مهما ارتفع أو انخفض شعوره بالخوف من العقاب الأخروي أو الاجتماعي.
قال لي أحد الأصدقاء المثقفين: يزعجني أن أجد في رسالة الجوال “أنشرها تؤجر” لأن ربط كل فعل خير بالأجر، يجعلنا وكأننا لا نفعل الخير إلا إذا تذكرنا المقابل الذي سنحصل عليه.
قد لا أتفق معه تماما، ولكن الأكيد أن ربط السلوكيات بالثواب والعقاب فقط أمر مخالف للدين الإسلامي ومخالف لأبجديات علم السلوك لأن الإنسان لا يتذكر العواقب دائما.
هذا ربما ما يزعجني في بعض الأفكار المرتبطة بـ”النهي عن المنكر” حيث تجد تركيز الجهود كلها على معاقبة المخطئ وليس على بناء ثقافة اجتماعية تفهم مكمن الخطأ وأسبابه، أي تحاول دائما إخافة المخطئ فاذا ابتعد عنه الخطر لم يجد رادعا من ارتكاب الخطأ لأنه لم يقنعه أحد يوما بأن ذلك خطأ.
إذا أراد المجتمع أن يطور نفسه، يحتاج أن يبحث عن السلوكيات الخاطئة ليصححها، السلوكيات التي تنتج التخلف، ويصححها من خلال المدرسة والبيت والإعلام وغيره، ولكن كل من يريد أن يشارك في عملية التصحيح “المدرسين، الآباء والأمهات، المثقفين ..الخ” يلزمهم أن يبحثوا عن هذه السلوكيات ويتعلموا كيف يغيروها كقناعات لدى الأشخاص، قناعات لا ترتبط بخوفهم من المجتمع أو بدرجة التزامهم الديني أو ببحثهم عن الرضا الذاتي.
أحد أسهل الأساليب لتغيير السلوكيات هو “العلم”.
أن تعلم الأرقام والنتائج والمعلومات المؤكدة هو الذي يجعلك تقتنع، وهذا ما يجعل أنصار “الشفافية الإعلامية” يطالبون بنشر كل شيئ في الإعلام ليس للتحريض عليه، بل حتى يفهم الناس ماذا يمكن أن تكون نتائج الفساد.
لذلك فإن أخطر مصيبة على المجتمع هو الجهل، الجهل بأنواعه. الجاهل هو كتلة من التخلف وبالتالي من السلوكيات الخاطئة.
يعجبني في الغربيين _ حيث درجة الضغط الاجتماعي حوالي الصفر ودرجة الوازع الديني محدودة جدا أيضا عند نسبة عالية منهم _ أن لديه وازعا عميقا ليفعل ما يفعل.
هو صادق لأنه مؤمن بعمق بأهمية وجود الصدق بين الناس، وجمال أن يعيش الإنسان في مجتمع يسيطر عليه الصدق.
لو كانت القوانين والأنظمة كافية لعلاج المشكلات، لكان من زمن طويل لدينا طرق يقود الناس فيها بتحضر رائع، وموظفون مخلصون في أعمالهم، ومجتمع خال من الخطيئة، لأن القوانين في أي دولة عربية تحاول معالجة كل هذا.
لكن القوانين لا قيمة لها أحيانا!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية