أيها السيدات والسادة، أعلن اليوم وفاة العقل.
العقل الذي ظلننا لقرون طويلة من الزمان مثار فخرنا كبشر وظلننا نستمتع به كقوة مميزة تعطينا القدرة على تجاوز كل الحدود والسفر عبر الآفاق قد انتهى زمنه وشاخ وهو الآن يحتضر.
هذا المقال يدور حول نظرية أؤمن بها وجوهرها هو أن القدرات العقلية لمجموع الناس تتراجع بسرعة في هذا القرن، وقريبا جدا سنجد الجماهير غير قادرة على التفكير السريع، ليس لديها سرعة البديهة، تعيش بذاكرة ضعيفة، وقدرات تحليلية ونقدية محدودة، وهناك خمسة أسباب لهذا التدهور الرهيب، الذي أعتبره من أسوأ التحديات التي ستواجه البشرية في القرون القادمة.
- السبب الأول: التكنولوجيا. الإنترنت والموبايل وبعض التكنولوجيات المذهلة التي ستأتي خلال السنوات العشر القادمة والتي أعلن عنها حديثها ستساهم في ندرة احتياج الإنسان لقدراته العقلية ما دام قريبا من التكنولوجيا.
الإنترنت صار يحمل كل المعلومات، والموبايل سيكون بديلا عن الذاكرة، وبرامج الكمبيوتر ستكون مميزة ومعقدة بحيث تغنينا تماما عن مهارات التفكير.
كثير من المهن اليوم يمكن أن يكون الإنسان بارعا فيها حتى لو كانت قدراته العقلية التحليلية ضعيفة ما دام يملك برامج الكمبيوتر اللازمة.
حتى فن مثل فن الهندسة المعمارية تراجع دور العقل فيه لصالح الكمبيوتر.
- السبب الثاني: نمط الحياة السريع جدا الذي نعيشه اليوم والذي يمنعنا من أخذ لحظات التأمل اللازمة لإنعاش قدرات العقل وقدرات التحليل والنقد والفهم العميق للأشياء.
لذلك الناس لم تعد تحتمل النص العميق المكثف، وصارت تريد شيئا سريعا بسيطا يمكن فهمه بنفس السرعة التي تسير بها حياتهم.
ليس فقط السرعة بل الأضواء والإبهار والأصوات العديدة والأجهزة التي تحيط بنا ورسائل الموبايل والإيميلات وغيرها كلها جعلت التفكير أمرا يحتاج لوقت لا نملكه.
- السبب الثالث: ثقافتنا اليوم تتحول بسرعة لثقافة “مرئية” تسيطر عليها الصورة المتحركة، سواء عبر الإعلان الذي يحيط بنا من كل جانب أو من خلال سيطرة التلفزيون والفيديو على حياتنا وتأثيرهم العميق في خبرتنا اليومية، والثقافة المرئية بطبعها تتعامل مع الحواس وليس مع العقل.
- السبب الرابع: التجارة و”البزنس” سيطرت اليوم على عالم الإعلام والمعلومة والاتصال بشكل عام، فضلا عن كون كل القطاعات الاقتصادية صارت تستخدم الإعلان والإعلام للبيع والترويج، وطبيعة الرسالة التجارية أنها رسالة تركز على الغرائز والعاطفة ورد الفعل السريع، والغرائز والعواطف بطبيعتها تمضي في اتجاه معاكس تماما لاتجاه العقل.
- السبب الخامس: سيطرة الرأي على المعلومة، ففي السابق كانت المعلومة لها قيمة أكبر في التعليم والإعلام وحتى في أحاديث الناس الشخصية، ولكن مع توفر المعلومة الرهيب عبر الإنترنت ومختلف وسائل الاتصال، صار للرأي دور أكبر، والآراء بطبيعتها مضادة للعقل، لأن الرأي يكون له قيمته عندما يكون عاما، حادا، عاطفيا، سريعا، يمكن فهمه بسرعة والتفاعل معه بقوة.
بدون ذلك يكون الرأي مملا و”نخبويا” لا علاقة للجماهير به.
إننا في زمن تقل فيه قيمة المفكرين والنقاد والمحللين، وصارت القيمة فيه للنجوم والمشاهير والأشخاص الذين تتحول أسمائهم لماركات تجارية يريد الناس أن تعرف عنها كل شيء.
هذا هو واقع الإعلام والفن والأدب وحتى العلوم الدينية والتاريخية والنقدية.
رحم الله العقل؛ كان الإنسان يفتخر بسرعة تفكيره وقوة ذاكرته وعمق رأيه وبديهيته اللماحة وقدرته على الملاحظة وقدرته على الإبداع، أما الآن فنحن في زمن يبحث فيه الناس عن الترفيه والتكنولوجيا ومواكبة الجديد والصورة الأجمل والصورة الذهنية الأقوى وإشباع الغزائز ومراعاة العواطف.
لن يعرف الناس قيمة العقل الذي فقدوه، سيشعر الناس بتفاهة الحياة وسطحيتها وسيكونون مرهقين دائما من سرعتها، ولأن قدراتهم العقلية لم يتم تمرينها منذ زمن طويل، فهم لن يكون لديهم القدرة على تحليل ما يعانونه ونقده.
تروي بعض النصوص الإسلامية أن الفقهاء سيكونون نادرين في آخر الزمان، وأنا أراهن أن العلماء بأنواعهم ستزداد ندرتهم وسصيبنا كلنا جفاف العلم والعقل.
رحم الله العقل!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية