الحديث عن التاريخ لأمة لم يتبق لها من أمجادها إلا ما سطرته كتب التاريخ يبدو موضوعا شديد الحساسية يتجنب الجميع الكتابة عنه حتى لا تنالهم سياط الغاضبين، وأنا عندما أتناوله فلن أستطيع أن أقول إلا بعض الحقيقة.
مشكلة التاريخ الأساسية أنك تتحدث عن سيرة قرون من الزمن، فيها ملايين التفاصيل، ونحن عندما نتناوله نحاول اختصاره في لوحات محدودة خالية من التعقيد، نستطيع أن نفهمها ونصنفها على أنها “خير” أو “شر”.
عندما نتناول شخصية ما، فنحن نميل لأن نقول بأنه كان رجلا عظيما أو رجلا ظالما مستبدا، فالحجاج جبار ظالم، وهارون الرشيد عظيم عند بعضنا، ومجرم عند الآخر، أما صلاح الدين فهو أعظم الناس، وإذا أحب البعض أحد الأئمة فلا يمكن نقده لأن النقد معناه هنا نقله من ضفة الخير إلى ضفة الشر، وإذا كره البعض عالما فلا يمكن مدحه للسبب نفسه.
التاريخ لدينا أبيض وأسود فقط لا غير، هذا بالطبع مخالف للحقيقة وللعقل.
إذا كنا نختلف في فهم حدث مثل ما يحدث اليوم في العراق أو لبنان، ورغم كل وسائل الإعلام وأدوات البحث وتكنولوجيا الاتصالات نعجز عن فهم الحدث تماما، وإذا كنا كذلك نختلف في تحليل شخصية ما، وفهم دوافع قراراته، ويقف بعضنا مؤيدون له وآخرون رافضين له، رغم أنه يظهر على وسائل الإعلام كل يوم، فإن من الأولى أن لا نفهم التاريخ.
التاريخ بالنسبة لنا غير موجود لأنه مضى، وما لدينا فقط ما دونه قراء لهذا التاريخ، قراء من البشر لديهم أهوائهم وميولهم وأخطائهم وحماقاتهم وعقدهم النفسية ومصالحهم، كما أن لهم عظمتهم أيضا.
نفهم الأحداث من خلال عيونهم، رغم أنهم عاشوا في زمن محروم من وسائل الاتصالات الحديثة.
كيف نفهم التاريخ ثم نقدسه ونستلهم أمجادنا منه، وهو ضبابي فيه الكثير من الأخطاء والروايات، فالأحداث بطبيعتها معقدة ولا يمكن تبسيطها بعبارات قصيرة جدا.
هناك طبعا مصادر للتاريخ لها قداسة وأعني هنا كتاب الله عز وجل والحديث النبوي الشريف، وما عدا ذلك فنحن نتحدث عن مصادر متأخرة في الغالب تروي لنا ما حدث حسب ما سمع به أصحابه، ولا غير.
لو تأملت كتب الجرح والتعديل، وهي على ما نعرف الأفضل في التوثيق التاريخي والعلمي للمعلومة، وتتناول أمرا متخصصا وهي مدى مصداقية الشخص الراوي للحديث النبوي، فستجد أن نفس الشخص الذي اعتبره أحد علماء الحديث ضعيفا لا تقبل روايته، هو رجل صدوق موثوق عند عالم آخر، وليس في ذلك عيب لأنه من المتوقع أن تتفاوت آراء العلماء في الإنسان، ولكن العيب فينا نحن حين رفضنا هذا التعقيد في فهم التاريخ وشخصياته وصرنا نضفي القداسة عليه.
التاريخ ليس مقدسا، وسيرة الأمة الإسلامية ورجالاتها هي سيرة معقدة جدا كما أن حياتنا اليوم معقدة جدا، وأولئك الذين يحاولون ليل نهار بلا توقف أن يحظروا علينا إعادة قراءة التاريخ أو محاولة فهمه بطريقة مختلفة هم مخطئون عقليا وأيدلوجيا وإن كنت أفهم دوافعهم، فعندما تبني كل استنتاجاتك على أساس التاريخ وتطالب الناس بالحركة في اتجاه واحد معين على أساس التاريخ، فإن المنطقي أن تسعى كل جهدك لحماية التاريخ كما فهمته.
أكتب ما أكتب ردا على أولئك الذين ضايقهم محاولة قراءتي للتاريخ بشكل مختلف في مقالات سابقة في هذه الجريدة.
أكتب ما أكتب وقد طاف بي وبغيري الكيل من التعامل مع ما تنص عليه كتب التاريخ على أنه نصوص لا يقبل النظر فيها.
لقد مرت أمتنا الإسلامية والعربية بقرون من الإنجازات وقرون من الفشل والمصائب كذلك، ونحن نحتاج التاريخ اليوم حتى نستطيع أن نبحث عن الدروس ونستشرف المستقبل ونخطط للطريق خارج الأزمة، ولكننا نحتاج للحرية الكاملة في قراءة التاريخ بعيدا عن القوالب الجاهزة في فهم الأشخاص والأحداث.
أتمنى أن نعلن يوما انتهاء تعلقنا الخرافي بالتاريخ، واستعدادنا لإعادة فتح صفحاته والتأمل في حروفه، والبحث فقط عما يعنينا كأمة تعيش في القرن الواحد والعشرين بعيدا عن الخلافات البيزنطية التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
المهمة في الأصل هي مهمة علماء التاريخ، ولكن الكثير من باحثي التاريخ بكل أسف تحولوا لمجرد ببغاءات تكرر ما كتبه الأولون، وكثير من أقسام التاريخ في جامعاتنا تتقن فقط الحفظ والتلقين للأحداث، أما كتب التاريخ المدرسية فهي وجبة ثقيلة من الأرقام والأسماء التي تقدم لنا كحقائق لا تعرف التغيير.
المهمة اليوم هي مهمة كل مثقف، ومهمة كل عالم وكاتب يلجأ للتاريخ ليبحث عن الحقيقة. البحث عن الحقيقة يحتاج لإيماننا بها بعيدا عن الأفكار المسبقة وردود الأفعال السلبية والحملات الإعلامية.
التاريخ ليست له قداسة ولا معالم واضحة، ولكننا نحتاجه كل يوم!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية