يستغرب العديد من الكتاب الأمريكيين الذين اقتربوا من شؤون الشرق الأوسط من تشابه التركيبة الفكرية والسياسية بين الأمريكيين والعرب، فلديهم محافظون وليبراليون، ولدينا محافظون وليبراليين.
المحافظون لدينا ولديهم هم المتشددون الذين يفضلون النزول لساحة المعركة لحسم الخلافات، ويعتمدون على الدين والمبادئ في تبرير قرارتهم، ويكرهون الحلول الوسط، ويهتمون بالمصلحة العامة أكثر من مصلحة الفرد ورغباته، ولا يفضلون التعددية ولا يجدون مساحة كبيرة لمن يخالفهم، بينما الليبراليون لدينا ولديهم هم المتساهلون أكثر في مسألة الصراع من أجل الأفكار، ويعطون وزنا أكبر لاختيارات الأفراد الشخصية، ويكرهون المعارك وموازين القوى، ويحبون المساحات الرمادية، ويقتاتون من خبز التعددية، ويسعدون بمجتمع متعدد الألوان حيث كل لون يتنفس بطريقته.
والحقيقة أن كل مدنية وجدت تاريخيا توفر فيها اليمين المتشدد واليسار المتحرر حتى في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث لم يكن الصحابة كلهم على وتيرة واحدة، وكنت تجد عمرا وعلي رضي الله عنهم، على اليمين الذين ينتصر للدعوة المحمدية بينما أبوبكر وعثمان رضي الله عنهم، أكثر ميلا للتسامح والعفو ومراعاة الطبائع والعواطف الإنسانية، وانعكس هذا على التاريخ الإسلامي بطوله وعرضه، وتجد الأمر نفسه في تاريخ العصور الوسطى في أوروبا، وتجده حاليا في الصراعات السياسية في اليابان ودول آسيا الأخرى، ولهذا سبب بسيط جدا مرتبط بالأمزجة والتركيبات النفسية للبشر.
الدراسات النفسية توضح أن الناس مختلفين ومتباينين بطبيعتهم، فالبشر بطبيعتهم يميلون للتشدد أو التساهل، وهم بطبيعتهم النفسية يميل فريق منهم للأسود والأبيض في التعامل مع الأمور ويفضلون الوضوح الشديد في كل قضية ويحبون الاحتياط من كل إمكانية خطأ سواء في الأمور الدينية أو السياسية أو الأمنية بينما آخرون يميلون للحلول الرمادية، ولا يمانعون من وجود بعض الغموض ولا مشكلة لديهم من عدم امتلاكهم لإجابات قاطعة لكل احتمال، ويتركون الكثير من المشكلات بدون حل.
أمزجة البعض النفسية تجعلنا نفضل مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد، بينما أمزجة البعض الآخرين تجعلهم يهتمون براحة الفرد ورغباته ويهتمون بها أكثر من مصلحة المجتمع العامة.
بل إن أحد العلماء الأمريكيين الشهيرين قام بوضع مقياس كمي للمجتمعات، فوجد أن بعض المجتمعات مثل أمريكا وأوروبا الغربية فيهم نسبة أعلى من الناس الذين يهتمون بالأفراد وحرية الرأي أكثر من المجتمعات والمصلحة القومية العليا وسماها بالمجتمعات الفردية individualistic، ووجد أن مجتمعات أخرى مثل روسيا والصين والعالم العربي يهتمون بمصلحة المجتمع أكثر من الحرية والديمقراطية ورفاهية الأفراد وسماها بالمجتمعات التجمعية Collectivistic.
طبعا المزاج والتركيبة النفسية لا تحكم وحدها تصرف الإنسان وسلوكه، بل للتربية دور أساسي، ولكن التركيبة النفسية لها دور كبير قدرها بعض العلماء في أمريكا بنسبة تتراوح بين 40 إلى 60%، وهي تركيبة تتأثر بالوراثة كذلك، ولكن التربية طبعا لها أثرها الحاد، ولذا قد تجد الإنسان منتقلا من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين في مراحل حياته بسبب تربيته أو تأثير الآخرين عليه أو بسبب الظروف الاجتماعية.
مع ذلك، تجد غالبا من يميل للتطرف متطرفا مهما كان اتجاهه الفكري والديني والسياسي، والذي يميل للوسط معتدلا مهما كان اتجاهه كذلك.
كتبت كل هذا لأدلل أنه لا يمكننا أن نكون على قلب رجل واحد، وأنه لا يمكننا أن نمضي كأمة واحدة في وطن واحد إلا ونحن مؤمنون بأننا مختلفون وسنبقى مختلفين لأننا الله خلقنا كذلك، ولا حل على الإطلاق حتى ينال كل إنسان نصيبه ويسعد الناس كلهم ويعملون لمصلحة الوطن المشتركة إلا إذا توفرت الثقافة التعددية التي تعطي لكل إنسان فرصته الكافية من الحركة والتفكير وتطبيق مبادئه التي يؤمن بها دون أن يعتدي على حرية الآخرين.
نحن مختلفون نفسيا وفكريا وثقافيا ولا بد لنا أن نتعايش رغم ذلك..
مساحات التسامح هي الحل الوحيد دائما!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية