الفساد.. المشكلة التي تقتل كل الحلول!

من قسم إدارة وأعمال
السبت 20 يناير 2007|

في كل مرة أكتب عن مشكلة وطنية وآخرها الأسبوع الماضي عندما اقترحت آلية للتوظيف تجبر الذين يوظفون على الاعتماد فقط على المؤهلات والكفاءات في اختياراتهم، يأتي من يعلق ويؤكد أن الحل غير قابل للتطبيق لأن “الفساد” سيقف عائقا حادا في تطبيق الحل.

الحكومة تصدر القرار وتضع الآلية ثم يأتي أفراد يريدون خدمة مصالحهم الشخصية فيفعلون ما يريدون متجاهلين الأنظمة.

هذه المشكلة ليست خاصة بدول معينة دون غيرها، فكل دول العالم بلا استثناء بما فيها الولايات المتحدة واليابان تعاني منها، ولكن الدرجات تتفاوت طبعا، وهي مشكلة _ كما هو معلوم _ مثلت أرقا دائما للحكومات والشعوب منذ أوائل القرن العشرين، وخلال مائة سنة جربت الأمم مختلف الحلول لمعالجة هذه المشكلة العويصة التي تدمر الجهود الوطنية للتطوير ولعلاج القضايا وإقرار القيم العليا.

عبر السنوات؛ اختصر العالم الحل الأساسي للفساد بكلمة “الشفافية” Transparency، ولذا تجد تقارير الفساد الدولية تظهر باسم تقارير الشفافية، والتي أصبحت الكلمة الإيجابية المقابلة للفساد، مما يؤكد أنه من جهة أخرى أن الخبراء العالميين يرون الآن أن عدم وجود الشفافية يقابله الفساد مباشرة، فإذا انخفضت درجة الشفافية ارتفعت درجة الفساد.

ومشكلة الشفافية الأساسية أنها تحتاج للكثير من الجهود لتكون جاهزا لها.

في أمريكا تدخل إلى المكتبة العامة في المدينة، فتجد قسما من المكتبة فيه المجلدات الكاملة لميزانية المدينة، متاحة للإطلاع، ببنودها التفصيلية جدا، وتجد معها وثائق الصرف والمحاسبة.

يمكنك أن ترى ما هي رواتب الموظفين، ومميزات المدير، ومن أين تحصل الإدارة الفلانية على مستلزماتها المكتبية، وكيف تم إرساء العقد الفلاني على الجهة الفلانية.

في المكتبة الوطنية بواشنطن، تجد ميزانية الدولة منشورة، وكل ورقة صغيرة أو كبيرة كتبها الرئيس الأمريكي أو أي من أفراد الدولة، ما لم تصنف على أنها سرية، كما يسمح القانون لأي صحفي أو باحث _ وأي شخص يستطيع أن يدعي أنه باحث عموما _ أن يطلب أي معلومات يريد من أي وزارة أو شركة عامة، بما في ذلك الـFBI.

أذكر المثال الأمريكي لأنني شاهدته بنفسي، وإلا فكل دول العالم الغربي لديها قوانين متشابهة في هذا السياق، وأبرز هذه الدول سويسرا وبريطانيا بالطبع.

في البلاد العربية، نحتاج لحل مشكلة تمنعنا من الاندفاع في الشفافية وهو خوفنا الشديد على هيبة الدولة وهيبة الوزارات وخصوصية وهيبة الأفراد التي تعمل في الوزارات.

العرب يحبون القيل والقال وينطلقون بعاطفية نحو الأمور، ويصدقون كل الشائعات، فإذا عرفوا شيئا عنك سقطت من أعينهم، وإذا كرهوك استمر هذا الكره لسنوات طويلة، وقد يمتد الكره والإساءة لعائلتك وقبيلتك، ومن لا يصدق عليه أن يراجع منتديات الإنترنت ليتأكد مما أقول.

نحتاج لثقافة جديدة تنطلق من المؤسسة الحكومية وتمتد إلى الأفراد، تقدس الشفافية من ناحية، ولكنها في نفس الوقت تعالج هذه الإشكاليات الثقافية التي نعاني منها.

من جهة أخرى، نحتاج لبنية قانونية متكاملة توضح كيفية التعامل القضائي والرسمي والإعلامي مع الشخص الذي يتهم بالفساد.

الشفافية هي الحل الأوحد للفساد، ولكن تحقيقها يحتاج إلى طريق طويل.

لو راقبت تعامل الشركات المساهمة مع الإعلام لاستغربت وعرفت أن الطريق طويل جدا.

الشركات المساهمة هي شركات عامة والقانون يفرض عليها أن تفتح أوراقها، ولكن عندما تنشر وسائل الإعلام خبرا سلبيا عنها مهما كان معدلا وملطفا تقوم قائمتهم ويهددون بقطع الإعلانات عن الوسيلة الإعلامية والتي عادة ما ترضخ لهذه التهديدات.

إذا كانت الشفافية تعجبك، فابدأ بنفسك في عملك، افتح أوراقك لزملائك وموظفيك، وإذا كنت صاحب قرار، فحاول أن تكون شفافا في التعامل معها.

ستكتشف صعوبة الحل، وكثرة المشكلات التي ترافقها، ولكن ذلك خير من أن نقف صامتين دون أن نحاول، ودون أن نفهم هذه المشكلات ونبحث لها عن حلول..

في كتابات سابقة الأسابيع الماضية القليلة أشار عدد من الزملاء الكتاب لقانون “من أي لك هذا؟” الذي بدأ في عهد الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، لكن يجب أن يلاحظون أن الرسول قدر الحساسيات الاجتماعية فلم يعلن أسماء من اتهمهم بالفساد على المنبر، بل قال “ما بال أقوام؟”، والذي يجعل تطبيق قوانين الشفافية المتبعة في الغرب أمرا يحتاج للكثير من النظر والرؤية.

أحدهم اقترح أن تساهم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محاربة الفساد، والهيئة نفسها من ناحية أنظمة الشفافية لم تعلن حتى الآن اللوائح التنفيذية الدقيقة التي تنظم آلية عملها، وتحتفظ بالكثير من المعلومات كأسرار، أحيانا لحماية أفرادها، وأحيانا لمراعاة مصالح الناس والمجتمع.

الفساد يقتل كل الحلول، ومعالجته بالشفافية طريق طويل جدا، يحتاج لجهود جبارة، ولكننا قد نحتاج أيضا للبحث عن حلول أخرى أسرع فعالية وأكثر مناسبة لنا بالإضافة للشفافية.

قاتل الله الإنسان الذي يفضل نفسه على وطنه!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية