تناولت قبل أسابيع في هذه الزاوية “مشكلة الذكاء الاجتماعي” وكيف أن هناك نسبة عالية من الناس تصل إلى مناصبها بسبب ذكائها الاجتماعي وليس بسبب قدراتها المهنية أو بذل الجهد والتفوق على الآخرين، وتحدثت كيف أن هذه المشكلة تترك أثرا عميقا على مؤسسات القطاع الخاص والعام لأنها تدفع بمدراء ضعفاء إلى الواجهة فيفشلون وتفشل مؤسساتهم رغم توفر كل مقومات النجاح.
ويبدو أن ذلك المقال قد لامس جرحا عند الكثير من الناس الذين كتبوا لي مشكورين يعبرون عن آلامهم لأنهم حرموا من الفرص بسبب تقدم الآخرين عليهم بسبب علاقاتهم رغم أنهم لا يفقهون من الأمر شيئا.
لكن الكثيرين ممن تحدثوا معي وكتبوا كانوا يقولون بطريقة أو بأخرى بأنني لم آت بجديد، وأن المشكلة معروفة لديهم، وأن ما هو مفقود هو الحل.
هناك ولا شك العديد من الحلول لهذه المشكلة العويصة والتي لها آثارها السلبية العديدة اجتماعيا واقتصاديا، ومن المؤكد أن الوعي بالمشكلة هو أساس كل الحلول، لأن كل الأفكار لن ترى النور إذا لم يقتنع الناس بأهمية تطبيقها وعلاج المشكلة التي جاءت لحلها.
أحد الحلول التي أريد أن أقترحها هنا أقتبسه من التجربة الأمريكية والتي عانت الأمرين من العنصرية ضد الملونين وخاصة السود وضد النساء وضد كبار السن وضد فئات الفلاحين وضد الأقليات الدينية.
كانت أمريكا حتى السبعينات الميلادية مثل الغابة التي يظلم فيها كل إنسان لا ينتمي للطبقة المفضلة، وكانت النساء لا تحظ بأي وظائف في المنافسة مع الذكور.
للتعامل مع الموقف والذي بدأ يرعب الأمريكيين لما رأوا أن هذه العنصرية بدأت تؤثر على واحد من أهم الأمور في حياة الإنسان وهو عمله ومصدر رزقه أصدروا قانونا صارما اسمه قانون “التوظيف متساوي الفرص” Equal Opportunity Employment، وبناء على هذا القانون فإن أي جهة عمل مسؤولة عن إثبات أن قرار التوظيف الذي اتخذته كان لأسباب مهنية بحتة ليس لها علاقة بالصفات الشخصية للإنسان سواء دينه أو جنسه أو عرقه أو طبقته أو غير ذلك مما يميز بين الناس.
لسنوات طويلة كان طريقة تطبيق القانون غير واضحة، وذلك لأنه كان من الصعب إثبات وجود العنصرية في التوظيف، ولكن مع وجود عشرات آلاف الدعاوى القضائية باسم القانون بدأت الشركات تتلمس طريقها في التنفيذ لتجنب الخسائر المادية في هذه الدعاوى، وبدأت تتخذ إجراءات صارمة في عملية التوظيف والترقية والتعيين تكفل لها تطبيق القانون، وبدأ الفئات غير المرغوبة تجد طريقها إلى الوظائف والترقي في المناصب.
من جهة أخرى قام الكونجرس بإضافة الكثير من المواد التي تحدد القانون بشكل أكثر دقة وتساعد على تنفيذه.
الشركة الأمريكية مطلوب منها الآن أن تبني قائمة بالمعايير المهنية التي ستقوم بتعيين شخص على أساسها، وإعلان تلك المعايير، ومطابقة كل طلب للتوظيف مع هذه المعايير، ومراعاة هذه المعايير في المقابلة الشخصية فلا يجوز سؤال المتقدم أي سؤال شخصي بما في ذلك مكان الولادة أو الديانة أو أصل الأسرة، ويتم اختيار الشخص الذي سيتم توظيفه أو ترقيته أو تعيينه في منصب معين بناء على النقاط التي حصل عليها، كما يحتفظ بهذه الوثائق لعدة سنوات للاستعانة بها عند وجود دعوى قضائية.
النتيجة بعد سنوات طويلة من تطبيق القانون وتطويره هو أن الشخص لم يعد يحتاج لبناء علاقات وواسطات حتى يحصل على وظيفة بل يحتاج فقط لبناء مؤهلاته وسيرته الذاتية والمنافسة بها مع الآخرين، وسيكون من حظه العظيم أن يظلمه أحد لأن هذا يعني أنه سيحصل على تعويض مجز يبلغ مئات آلاف الدولارات إن لم يكن أكثر.
هذا لا يعني أن أمريكا خالية من العنصرية والواسطة، فهناك دائما طرق للالتفاف على القانون كالإعلان عن الوظيفة بشكل محدود جدا بحيث لا يطلع عليه إلا الشخص الذي يراد دفعه للوظيفة أو تفصيل الشروط المهنية على مقاس الشخص الذي يريدونه بحيث لا ينجح أحد إلا هو.
ولكن بالرغم من ذلك، فإن المؤكد أن القانون ساهم بقوة في علاج مشكلة ضخمة لتتحول لمشكلة صغيرة ومحدودة جدا، ومثل هذا القانون لو طبق في البلاد العربية لساهم بشكل غير مسبوق في علاج مشكلات “التوظيف بالواسطة” والوصول عبر العلاقات الاجتماعية ولتحسن مستوى الشركات والمؤسسات إداريا.
الطريف في القانون الأمريكي أن المطاعم الإيطالية والهندية والصينية لا تستطيع اعتماد الأصل والجنسية شرطا في التوظيف، فيضطر المطعم الإيطالي لتوظيف شخص صيني لخدمة الزبائن، وهو الأمر الذي كان يثير الإيطاليين بالذات ويجعلهم دائما ينتقدون القانون رغم أنهم أكثر من استفاد منه بحكمهم كانوا من الفئات المرفوضة سابقا!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية