الأماكن كلها مشتاقة لك
والعيون اللي انرسم فيها خيالك
والحنين اللي سرب روحي وجالك
ماهو بس أنا حبيبي
الأماكن كلها مشتاقة لك
شاعت هذه الكلمات بين الناس لأسباب عديدة منها أن الناس تعشق “الأماكن”.
الأماكن لها في نفوسنا مكانة كبيرة لأنها تحمل ذكرياتنا وتلتقط عمق لحظاتنا ونربط بها في ذاكرتنا تلك المشاعر التي عشناها حول الأماكن.
وإذا كان الناس يتفاوتون في الارتباط بذكريات الأماكن، فإن بعضهم إذا سرى في مكان ما سمع الصوت ورأى ما كان يحدث يوما في ذلك المكان وربما بكى وتألم أو ضحك، وإذا كان للمكان نفسه ذكريات عديدة انتقل من لحظة إلى أخرى وكأن المكان كاميرا تنتقل به من ذكرى إلى أخرى.
بعض الناس يشعر بعبقرية المكان، فيرى لماذا كان للمكان أثره الكبير في نفسه، ولماذا ارتبط المكان بالحدث وبعواطفه الجياشة ولم يرتبط به مكان آخر، والبعض الآخر يتحدث مع المكان ويبادله الشجون وكأن المكان قد اتحد مع اللحظة التي فاتت، ومع الحبيب الذي مضى.
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديار
ولعل أجمل أبجديات التخاطب بالمكان والالتحام معه أن تعرف تاريخه، فترى قرون التاريخ تمر عليه، وتشعر بتقديرك لذلك المكان، وترى من خلاله سينما ناطقة للزمان، وتعيش معه اللحظات ثم تمزجها بلحظاتك فتصبح أيامك وذكرياتك امتدادا للتاريخ العريق.
لعل هذا ما يشعر به بعض الذين امتزجت أرواحهم وهم يجلسون ويتناغون على نهر النيل العظيم وهم يشعرون بعبقرية المكان “كما رأيتهم ليلة أمس من نافذة الفندق!”.
بعض الأمم تقدر المكان وعبقريته كجزء من ثقافتها وقيمها اليومية.
أنظر كيف يحافظ الإيطاليون على روما وكذلك الشأن بالنسبة للندن وباريس وكوبنهاجن وغيرها حيث تنفق الملايين من التبرعات الخيرية وأموال الضرائب على المحافظة على المكان وتقديس ذكرياته، وكأنهم يعلنون ارتباطهم بروح التاريخ التي تمضي في المكان وتعلن كل الدروس التي يحملها المكان في جعبة ذاكرته.
من جهة أخرى، تجد العرب وقد مر التاريخ كله بين ديارهم، فاكتفوا بتقديسه على صفحات الكتب وأهملوا كل الأماكن، ربما لأن الأماكن نفسها قد ذبلت وسكنتها أرواح الجهل والفساد والطغاة الصغار فصارت تذكيرا دائما بالمأساة والانهيار.
هل تشعر بروح المكان؟ أظن أن كثيرا من الناس يشعر وهو لا يدري.
تخيل أن التكنولوجيا تقدمت أكثر واستطاعوا تقليد الأهرامات كما هي ووضعوها في مدينة أخرى، ستكون أهرامات بلا روح مكان، والأمر نفسه ينطبق على تقليد المكان الذي انتعشت فيه مشاعر الحب، سيبقى نسخة تقليد من لوحة أصلية ثمينة جدا مرت عليها يد الفنان العظيم.
لهذا السبب يعاني الناس مع حركة العمران والتكنولوجيا حيث كل المباني الحديثة والجميلة تقف شامخة رائعة الشكل ولكنها ما زالت ناقصة روح المكان وذكريات مئات السنين، وهي ما زالت تفتح ألبومها لتبدأ جمع اللحظات.
روح المكان تسري بيننا ونشعر بها ونحن لا نعلم.
عندما ندخل الأحياء القديمة، نشعر بتلك الروح رغم اتساخ الكثير من تلك الأماكن ومعاناتها من الفقر _ أقصد في العالم العربي _ إلا أننا نستمر في مضينا سعداء بانسجامنا مع تلك الروح.
أحيانا تنظر لبعض الأشخاص _ وخاصة الآسيويين _ وهم يلتقطون بكاميراتهم عشرات الصور وهم لا يظهرون في الصورة، وقد تتساءل لماذا لا يذهبون لأقرب مكتبة أو موقع إنترنت ويحصلوا على صور هذا المكان الأثري أو ذلك النهر أو الميدان وقد صورها فوتوغرافيون محترفون، ولكن الجواب واضح طبعا لمن يفهم قصة الأماكن، فالصورة التي تلتقطها هي تجميد لتلك اللحظة التي عاشها هو مع المكان، فهو يريد لحظته وليس لحظة المصور المحترف الذي التقط الصورة نفسها للمكان، مهما تشابهت الصورتين.
ذكرياتنا تصنعنا، وتشكل أرواحنا، وترسم ثنايا أعماقنا.
من لا يحتفظ بذكرياته عبر السنين في ذاكرته، ولا يدونها، ولا يحتفظ بأرشيفه من الصور، خسر جزءا أساسيا من جمال الحياة وروح الماضي..
الاماكن اللي مريت انت فيها
عايشة بروحي وابيها
بس لكن ما لقيتك..
جيت قبل العطر يبرد
قبل حتى يذوب في صمت الكلام
واحتريتك..
كنت اظن الريح جابت
عطرك يسلم علي
كنت اظن الشوق جابك
تجلس بجنبي شوي
كنت اظن.. وكنت اظن
وخاب ظني
ومابقى بالعمر شيء
واحتريتك..
الاماكن
كلها مشتاقة لك.
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية