يمكن القول بثقة وبدون أي انحياز أن مسلسل “باب الحارة” قد نجح هذا العام بجذب القلوب والعيون التي كانت تتسمر مساء كل رمضان لمشاهدته في مختلف دول العالم العربي.
ولعل أكبر شاهد على هذا النجاح هو كون البرنامج أحد أكثر ثلاث برامج مشاهدة خلال رمضان الحالي عربيا حسب الدراسات والإحصاءات التي قامت بها المؤسسات المتخصصة في هذا المجال، والتي يمولها عادة المعلنون الذين يريدون فهم أنماط المشاهدة لدى الجمهور المستهدف.
لماذا نجح باب الحارة؟
لا شك أن للقصة والحبكة والإخراج والممثلين وسحر “الحارة الدمشقية” والعودة للتقاليد وغيرها مما تحدثت عنه المقالات النقدية بهذا الشأن دورها الأساسي والهام في نجاح “باب الحارة”، حيث استفاد فريق المسلسل مما تعلمه العرب خلال السنوات العشر الماضية عن الحبكة الدرامية الناجحة وخاصة تلك التي تستطيع تحقيق التفوق في موسم المنافسة التلفزيوني الرهيب خلال شهر رمضان المبارك.
ولكن في رأيي الشخصي هناك سبب آخر خفي ساهم في شعبية المسلسل ونجاحه لدى قطاع واسع من الجماهير، حيث بنى المسلسل حارة “مثالية” لا تتوفر في حياتنا اليوم ونشعر في أعماقنا بالفقد لها، فالشعور باليأس والإحباط والرفض للأوضاع السياسية والاجتماعية والأيديولوجية والاقتصادية يزيد ولا ينقص في العالم العربي، وهناك دائما بحث حثيث عن القدوة في كل مكان، وهناك شعور بعدم وجود الإنسان “الكامل” والمثالي في حياتنا، ذلك الذي يشخص قيمنا التي نتمناها، ثم جاء باب الحارة ليقدم لنا نماذج الحب والتسامح والتعاطف الجماعي وطاعة القائد وطاعة الزوجة لزوجها وحب الابن لأبيه ومقاومة المحتل الغاشم والشرطي اللئيم ثم ليختمها في الحلقة الأخيرة بالحديث عن الجهاد في فلسطين والتضحية بالروح والولد لأجل ذلك.
“باب الحارة” أعطى الجمهور العربي نافذة على العالم الذي يحلمون به، وإذا كانت المسلسلات التاريخية مثل “خالد بن الوليد” وغيرها قد استفادت من نفس “العطش الجماهيري”، فإن “باب الحارة” تفوق عليها في ذلك لأنه يقدم هذه المثالية في إطار العصر الحديث، ولأن الأحداث التاريخية لا يمكن تجميلها كثيرا بحيث تختفي تماما معالم النقص الإنساني الحقيقية.
الكثيرون قد يختلفون مع القيم التي يقدمها “باب الحارة”، فالعديد من المقالات كتبها النساء الذين تضايقوا من نموذج المرأة “المستسلمة” في المسلسل، واعتبروه عودة لنضالهم من أجل حقوق المرأة إلى الوراء، كما أن آخرين قد يزعجهم نمط “الزعيم” الذي يعمل الجميع لإسعاده ويراه الكل “مقدسا” عن الخطأ والسهو والإجحاف.
لكن مجرد البحث عن القدوة في الأشخاص وفي “الحارة” هو مشكلة أيضا.
يصنف ابن خلدون، الأمم إلى ثلاث أقسام:
أمم طفولية تتعلق بالأشياء والماديات، وأمم مراهقة تتعلق بالأشخاص، وأمم ناضجة تتعلق بالأفكار، و”باب الحارة” يؤكد مراهقة الأمة العربية، لأن المعجبين والمتابعين لم يناقشوا قط الأفكار والقيم التي يتضمنها ولم يجذبهم مثلا أن باب الحارة يقوم على الديمقراطية وحرية الرأي والمساواة التي يحلمون بها.
هذا الأمر لا يؤخذ طبعا على إطلاقه، فذلك لأن عددا من القيم في “باب الحارة” هي قيم جميلة تستحق الإيمان بها والدفاع عنها ويحتاجها المجتمع العربي، ولأن عددا من المتابعين للمسلسل قد يكون متعلقا بالجانب العاطفي فيه أكثر من الجانب المثالي، ولكن الحقيقة أن هناك بحث هائل لدى المجتمع العربي عن المجتمع الفاضل والعظيم الذي يحلمون به.
“باب الحارة” قدم درسا دراميا جديدا، فبينما كانت المسلسلات العربية دائما تركز على المشكلات الاجتماعية وجانب الصراع بين الخير والشر، وهو أمر تعلمه العرب من المسلسلات الغربية، فإن المشاهد العربي يبحث أيضا عن المجتمع المثالي والشخصية “الرائعة” التي تحقق له تعويضا عن كل ما يشاهده يوميا في حياته ومن خلال نشرات الأخبار.
هذه الحاجة النفسية الهائلة لدى الفرد العربي تشرح سبب إحباطه وهجومه الدائم على علماء الدين والمفكرين والسياسيين والذين كان يبحث فيهم عن القدوة المضيئة التي لا تبحث عن المال ولا تخضع لقسوة النظم وتترفع عن العواطف والأبعاد الشخصية، متناسيا طبعا أن هؤلاء هم بشر يعيشون في نفس المجتمعات التي يصنع سيئاتها أفراد المجتمع العربي كل يوم.
أبوشهاب وأبوعصام هم مجرد شخصيات درامية!!
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية