«اقتصاديات الوهم»: الإثراء من بيع الهواء!

من قسم منوعات
الأربعاء 19 يوليو 2006|

كتب الزميل المبدع صالح الطريقي، سلسلة مقالات الأسبوع الماضي في جريدة “شمس” عن أولئك الذين يعززون الخرافة في حياة الناس.

“الدكتور” محمد الهاشمي، صاحب قناة “الحقيقة” والذي يقوم بالرقية على التلفزيون، وقبله الشيخ التائب علي العمري، وممدوح الجبرين، والذي حكم عليه بالسجن لحديثه عن ظواهر فلكية استنتج منها موعد ليلة القدر، وعن محترفي المذاهب الغريبة في الطب البديل، وغيرهم، والذين حققوا لأنفسهم الثراء الفاحش عندما صدق الناس خرافاتهم.

هذه الأنواع من الناس موجودة في كل مكان وزمان، وفي الحقيقة ليس لك إلا أن تحترم قدراتهم المميزة على “بيع الهواء” على الناس، بينما الآخرون يسثتمرون ويتعبون ثم قد يخسرون أو يربحون، ولعل أشهر هذه الأنواع هم المنجمون الذين بدؤوا يتكاثرون على القنوات الفضائية العربية، يخبرون الناس بحظوظهم من مجرد معرفة اسمهم وتاريخ ميلادهم، وبعد البرنامج يتلقون آلاف الاتصالات من الحائرين والخائفين والطامحين، وتنتهي كثير من الاتصالات بجلسات خاصة يعقبها دفع اللازم مقابل وقت المنجم العبقري، الذي استحق المبلغ لأنه استطاع إقناع ضحيته بأنه عالم بـ”قوى ما وراء الطبيعة”!

التنجيم ومعرفة الطالع بدأت تتحول لصناعة محترمة في عالمنا العربي، حيث أعلن في بيروت عن مهرجان “دولي” لهؤلاء “المحترفين” والذين سيناقشون قضايا صناعتهم وتنظيم شؤونهم، ربما حتى لا يفضح الأغبياء منهم الأذكياء فتذهب التجارة في حيص بيص.

لكن القضية ليست متعلقة بهؤلاء ممن أسميهم “تجار الوهم”، بل بالعقول التي تتقبل الوهم وتؤمن به وتركض وراءه، وهي ظاهرة ليست محدودة في عالمنا العربي لو نظرت حولك بتمعن..

أليس غريبا أنه في الأحاديث النبوية وطوال عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لم ترد إلا حالة واحدة للإصابة بالعين، مما يعني أن “العين حق” ولكنها نادرة الحدوث جدا، ومع ذلك تجد الناس ينسبون كل صغيرة وكبيرة لتأثير العيون الخارقة، وقس على هذا السحر والجن والشياطين، وكل هذه الأمور التي ثبت صحتها ولكن النصوص تؤكد على ندرتها الشديدة في حياة الناس.

بل إن الإيمان بالأبراج منتشر بشكل واسع وخاصة في أوساط النساء، رغم أنه لا يوجد دليل واحد يجعل هناك مبررا للإيمان بها على الإطلاق.

لقد تسربت ثقافة تقبل الوهم عندما يلاقي الهوى إلى عالم الاقتصاد، حيث دخل آلاف الناس في مبادرات استثمارية انتهت بخداعهم وضياع أموالهم وذلك لأن من حدثهم باع عليهم الوهم وأقنعهم بما وافق هواهم من سهولة الإثراء السريع، فضحوا بمدخراتهم ليحصدها بائع الوهم المحترف، وأظنه لا يخفى على أحد أن بعض الظواهر التي حصلت في سوق الأسهم كانت نتيجة للوهم وللذين باعوا واشتروا الهواء.

لو كان الناس قد تعلموا في المدارس البحث عن الحقيقة والدليل والإيمان بـ”المعلومة” والمنطق وتحليلها بشكل نقدي لربما استطاعوا التخلص من شباك تجار الوهم، وما أقترحه ليس نظريا فهناك مواد تدرس في الغرب عن “التفكير النقدي” Critical thinking والتحليل العلمي، كما كان علماء السلف يعنون بتدريس المنطق والتبحر فيه، قبل أن نقع جميعا في دوامة التعليم “التلقيني” القائم على احترام المعلم وحفظ ما يقوله.

وفي رأيي الشخصي أن أكبر تجار الوهم هم من يبيعون الأفكار على الناس، أفكار الإرهاب، وأفكار الإصلاح، والنظريات الفلسفية التي يتقبلها الناس لأنها تبدو وكأنها تعالج مشكلة دون فحصها بشكل منطقي وحكيم، والوقوع في براثنها ودفع الثمن غاليا.

لقد استطاع البعض عبر السنوات إقناعنا بأن هناك ملايين الأشخاص الذين يستيقظون كل يوم للتخطيط للقضاء علينا، وجاء من أقنعنا بأفكار أخرى كثيرة تحت عناوين لامعة، وصدقناهم دون دليل ودون أي معلومة منطقية تثبت ما يقولون سوى بعض الإشارات والتعميمات التي ينقلونها عن مصادر لا نعلم إن كانت موجودة أم لا.

هناك أيضا السياسيون الثائرون وبعض من حملوا راية الدين أو راية الثقافة أو راية الليبرالية، وهم يبيعون علينا الوهم، ليحققوا الثراء والشهرة لأنفسهم وليسببوا لنا نكسة جديدة في حياتنا، وليقع العرب في دوامة من الأوهام التي لا ننتهي!

وهناك أبواب جديدة من الوهم ستأتي قريبا لأن هناك حوالي 3000 نوع من الطب البديل تنتظر من يجدها على الإنترنت ويبيعها عليها ويحقق الثراء من وراءها بينما نحن نضحك ببلاهة.

هناك أيضا القدرة الإبداعية اللانهائية على خلق النظريات والأفكار التي سنصدقها ثم نكتشف بعد زمن أنها حمقاء، وذلك بعد أن تطير الطيور بأرزاقها.

أطالب العرب بأن يتعلموا المنطق وأن يكون لديهم جيل من “الحكماء” الذين يبيعون الحقيقة!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية