يعاني الكثير من الزملاء الصحفيين والكتاب والمثقفين من ردود الفعل الحادة التي تصلهم كلما نشروا مقالا أو كتبوا موضوعا صحفيا أو تحدثوا في موضوع جرئ أو غير مألوف، وردود الفعل هذه تتجاوز في معظم الأحيان الرد المنطقي إلى الهجوم الشخصي والتهديد والاتهامات والتخوين والتكفير أو التفسيق والاتصالات المزعجة على الجوال ونقل الهجوم إلى منتديات الإنترنت.
ولأن الذين يهاجمون قد قرروا من اللحظة الأولى أن لا يردوا على الحجة بالحجة أو لا يستخدموا المنطق تجدهم يندفعون وراء اعتقادهم الشخصي بأنهم على حق وأن غيرهم مخطئ ظالم مغرض أو عميل، فيكيلون له كل تجريح ويندفعون في المبالغة والتأويلات الشخصية التي لو حكمتها لوجدت أكثرها غير دقيق ولا يستند على معلومة أو تحليل منطقي.
وفي معظم الأحيان تجد أن هذا الهجوم يعتمد على توقع بما ينويه الشخص من مقاله، وتجد الحديث كله عن النوايا والأغراض وما يخفيه الناس، رغم أن هذا من الغيب الذي لا يجوز لأحد أن يخوض فيه.
لقد غضب الرسول، صلى الله عليه وسلم، لما قتل أحد الصحابة رجلا في معركة دون أن يأخذ باعتباره نطقه للشهادة تحت السيف، فالصحابي كان يقول بأن الموقف يقتضي أن نطق الشهادة هو للتخلص من الموت، وكان رد الرسول غاضبا وحاسما بأن أحدا لا يمكن أن يشق قلب إنسان ويعرف ما فيه.
وفي الإسلام نهي عن سوء الظن، ومطالبة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومع ذلك تجد أن الذين يستخدمون الخطاب الإسلامي هم أول من يخرقون هذه القواعد، ليدينوا أنفسهم بأنفسهم.
كان العرب يعشقون بلاغة الرد، ويعشقون التفوق على الآخرين بالحجة، ثم تعلموا لاحقا مع احتكاكهم بالحضارات الأخرى أن يعشقوا المنطق حتى في الردود على من يرونهم كفارا، فتجد كتب أهل السنة في الرد على أهل الفرق استخدام مكثف للمنطق والحجة العلمية، بينما لا تجد _ في أغلب الأحيان _ العبارات الشخصية وبذاءة الألفاظ ولا تجدهم يطالبون السلطان بالقضاء على كل من يخالفهم إذا أراد السلطان أن يكسبهم إلى صفه.
ما الذي حصل حتى أصاب العرب الملل من استخدام المنطق، وصاروا يعشقون “القوة” وإجبار الآخر بكل وسيلة على أن يتبع رأيهم “مهما كان رأيهم ضعيفا وهامشيا”، وصاروا يتبعون كل وسيلة لوضع خصمهم في الزاوية الحرجة؟ لماذا صار الناس يستخدمون الكلمات العاطفية والشتائم المقذعة والاتهامات غير المنطقية بدلا من استخدام الحجة والمنطق؟
سألت هذا السؤال أحد رواد فكرة “تفسيق” كل المخالفين حتى لو كانوا يتكلموا في قضايا فلكية تخالف رأيه لما اتصل بي “ناصحا” فقال لي أن المنطق يستخدم مع من “تثق بأمانته وولائه للوطن” أما “الخونة” فلا ينبغي إلا محاربتهم بكل وسيلة ممكنة.
لما سألته كيف عرف بأنهم خونة؟ انطلق غاضبا صارخا في وجهي يدعوني لأفتح عيني وأترك محاولاتي البائسة للدفاع عنهم، ولا أعرف من يقصد بالضبط لأن هذا يشمل كل إنسان لا يعجبه، وقررت أن أغلق النقاش مع من أغلق قلبه وعقله دون أي حجة أو منطق.
إن الأمم لا تتغير إلا بتغير العقول، ولا يوجد مثال تاريخي واحد تغيرت فيه الأمم على المدى الطويل إلا بتغير العقول، وتغيير العقول في زمن الإعلام والانفتاح لا يكون على الإطلاق إلا بالحجة، وإذا كان البعض يظن أن “الحوار” هو ملجأ الضعفاء وأنه من توفرت له القوة فيجب أن “يدمر المخالفين” فهذا خطأ فادح فالقوة الحقيقية هي في القدرة على مخاطبة العقول وتغييرها.
إن استخدام الغضب بأنواعه قد ينفع مع البعض وقد يخيف الآخرين ولكن تيارات الأجيال الجديدة القادمة ستكون كالطوفان الذي إذا لم تقنعه بحجتك فسيجتاح الجميع.
لدينا آراء كثيرة وخلافات فكرية عميقة، ونحتاج لمعارك فكرية وثقافية ثقيلة ومستمرة وشاملة للجميع لحسم هذه الخلافات بما يخدم صالح الوطن وصالح الإنسان، وحتى نستطيع أن نتقدم خطوة إلى الأمام، ولكن لن يمكننا دخول معارك ثقافية حقيقية نقارع الحجة فيها بالحجة إلا إذا توقف كلا الطرفين عن التهديد بالطعنات إذا لم يعجبه سير النقاش..
إذا رأيت في حديثي عبارات محيرة فهذا لأنني خائف من الطعنات!!
حكمة فلسفية عميقة: “الأفكار تتنافس في سوق مفتوح، تطرد فيه البضاعة الجيدة البضاعة الرديئة”.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية