ألم يثر استغرابكم يوما أن نشرات الأخبار تعج بقصص الرهائن من السياح الأوروبيين والآسيويين في اليمن والجزائر وإيران وبورما والعراق _ مباشرة قبل الحرب _ وغيرها من الدول التي لم يفت على فطنة العربي يوما أنها لا تصلح للسياحة بسبب ظروفها، وخاصة مع وجود البدائل التي تقدم كل غال ورخيص للسائح العربي العظيم؟
ما سبب “لقافة” الغربيين حتى تجدهم سياحا في كل منطقة نائية وغابات متوحشة وأحراش مليئة بالحشرات والثعابين؟
في لقاء قبل فترة قصيرة مع أحد مدراء الشركات العالمية من ألمانيا حدثنا عن رحلة له بسيارة صغيرة قديمة انطلق بها في عام 1982 من صنعاء في اليمن إلى ألمانيا مرورا بالمملكة وسوريا وتركيا ودول أوروبا الشرقية، وما واجهه من صعاب خلال رحلته التي دامت ثلاثة أشهر، وكان حديثه مليئا بالحماسة عن كل منطقة زارها وما فيها من آثار وخصوصيات وأمور بعضها اندثر اليوم.
مثل هذه الرحلة ليست أمرا غريبا هناك، فمعظم الذين تقابلهم من الغربيين تجد أن له قصة من هذا النوع استهدف فيها اكتشاف العالم والبحث عن مكنوناته الثمينة غير الظاهرة، دون أن يستمتع بالفنادق الفخمة والرعاية “الأبوية” والترفيه المصنع الذي نجده في الدول المتميزة سياحيا.
عندما تزور المكتبات الغربية تجد فيها أقساما كاملة للسفر، فيها كتب عن كل دولة، ويندر أن يذهب السائح لدولة قبل أن يقرأ عنها وعن تقاليدها وتاريخها وآثارها وما تختص به، حتى تكون سياحته تجربة متكاملة يمتزج فيها الترفيه مع التعلم مع المغامرة مع القدرة على إثبات الذات.
أكتب كل هذا بمناسبة موسم السياحة الصيفية حيث تتجه مئات آلاف الأسر العربية لدول محددة استطاعت التعامل مع سطحية السائح العربي ومحدودية رغباته وكونه سائح لا يقرأ ولا يستعد ولا يريد إلا “البهرجة” التي تملأ عينيه وعيني أسرته المحترقة شوقا للتسوق والإنفاق و”التمشية”، ويريد أن تكون إجازته على طبق من ذهب بعد عام دراسي كامل من “القرف” و”الكبت” و”ضيقة الصدر”.
هذا ليس شأن كل سياحنا بالطبع، لكن تخيل معي لو تعلمنا يوما عندما كنا في المدارس حب الاكتشاف والمغامرة كما يتعلمه الطفل الغربي، وتخيل لو أن 20% فقط من هذه الأعداد الهائلة المتجهة لكل مكان خلال الصيف كان لديها نفس النمط السياحي الغربي، وصارت تحاول أن ترى تجارب الدول الأخرى وتستطلع خصوصيتها وتحاول تفهم ثقافتها، ألم يكن لهذا قيمة هائلة في توسع آفاق الناس وتطور رؤاهم النفسية وتعاملهم مع الآخرين وما هو خارج إطارهم.
قبل حوالي ستة سنوات، قام ثلاثة من الرحالة الكنديين برحلة عبر صحراء الربع الخالي هي الثالثة من نوعها خلال خمسين سنة قطعوا فيها صحراء الربع الخالي من عمان إلى الإمارات مرورا بالسعودية، وذلك على الجمال يرافقهم مجموعة من بدو تلك الصحراء.
طبعا ليس المدهش أن هذه الرحلات الثلاث خلال الخمسين سنة قام بها بريطانيان ثم الثلاثة الكنديين، وليس مدهشا أن أحدا منا لم يسمع بها ولم يلتفت إليها ولم تقرر أي محطة عربية بث فيلم الرحلة التي بثته محطة “ديسكفري”، فهذا هو المتوقع عموما، ولكن المدهش فعلا أن إدارة التعليم في منطقة كالجاري بكندا التي ينتمي إليها الباحثون فرضت على طلبة كل المدارس متابعة الرحلة يوما بعد يوم عبر الإنترنت خلال شهرين كاملين والتفاعل مع الرحالة الذين كانوا يتواصلون مع العالم عبر الإنترنت المربوط بالأقمار الصناعية والذي حملوه على أحد الجمال مع كاميرا تبث تفاصيل الرحلة لحظة بلحظة، وكان المنهج المقرر يتضمن جزءا جيدا عن تاريخ المملكة وجغرافيتها وطبيعة الصحارى عموما وصحراء الربع الخالي خصوصا، بالإضافة لدروس عديدة _ حوالي نصف المنهج _ عن قيمة الاكتشاف والمغامرة وأهميته للإنسان، وقيمة التعرف على الشعوب وخصوصية الثقافات واحترام الأقوام التي حافظت على نفسها من الاندثار في ظل المدنية الحديثة مثل بدو صحراء الربع الخالي، وكيفية التخطيط لرحلة اكتشاف، وكيفية البحث عن المعلومات قبل الرحلة، والتوثيق للرحلة بعد العودة منها ومشاركة الأهل والأصدقاء نتائج الرحلة.
لا أدري إذا كانت وزارات التربية والتعليم العربية مؤهلة لمثل هذا التطوير بحيث يمكنها أن تبث هذه القيم في نفوس الطلاب، وخاصة مع الغرام العجيب بحشو الأذهان بالمعلومات ومع تجمد المناهج بلا تطوير لفترات طويلة، لكنني فعلا أتمنى أن تتبنى هيئة السياحة مشروعا من هذا النوع، يتضمن تشجيعا على هذه القيم في نفوس الطلاب وترشيدا لعادات الأسر السياحية السقيمة.
تخيل لو طرح برنامج عن السياحة في صحراء الربع الخالي أو جبال تهامة أو مرابع بني طيئ في حائل أو حول هضبة نجد، ليس فقط حتى نكتشف، بل حتى نحفز الهمم ونرفع مستوى التفكير ونربط الإنسان بالطبيعة وتسود أخلاق التعاون والاكتشاف بين وفود الشباب الزائرة.
السياحة الداخلية تحاول منافسة ماليزيا ولبنان ودبي، وربما كان المعنى الأجمل هو أن نبحث عما يخصنا، ونقنع الناس بضرورة اكتشاف خصوصيتنا و”التمتع” بالتعرف عليها.
أشوفكم على خير للمزيد من النقاش حول الموضوع في أحد مقاهي “لندن” العامرة!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية