زرت الأسبوع الماضي مدينة “سيينا” الإيطالية، وكانت متعة لا توصف، لأن هذه المدينة الصغيرة قطعة مجتزأة من التاريخ، بنيت منذ أكثر من عشرة قرون، وكانت عاصمة للدولة لفترة من الفترات، ثم حافظ عليها أهلها كما هي بدون تغييرات، مما يجعلك تشعر من البناء أنك دخلت ساعة الزمن وانتقلت لعصور سابقة من حكم الرومان.
يوجد في سيينا عدد كبير من المتاحف، وأحد أكثر متاحفها غرابة هو متاحف أساليب التعذيب، الذي جمع عددا كبيرا من آلات التعذيب باختلاف أنواعها والتي كانت تستخدم عبر الفترات الزمنية بما فيها تلك التي استخدمت في القرون الوسطى لأسباب سياسية أو لأسباب دينية ضد “الكفار” بمن فيهم المسلمين في محاكم التفتيش في أسبانيا.
ليس من السهل السير في المتحف والتفرج على الصور المصاحبة للآلات والتي توضح استخدامها والقراءة عن تاريخها بدون أن تثير في نفسك الاشمئزاز، وقد تقفز من الحماس مقررا أن هذه لحظة تاريخية في حياتك لتبدأ بعدها مسيرتك كمحامي لحقوق الإنسان ما حييت!
الإطلاع على تاريخ الغرب وما عاناه الأوروبيون في العصور الوسطى بسبب تسلط الدولة والكنيسة يشرح لنا هذا التعلق العميق بقضايا الحريات وحقوق الإنسان واعتبارها أساسا للتقدم، وهو طبعا ما يختلف عن الرؤية العربية التي تجعل قضايا أخرى أكثر أهمية _ مثل القيم الأخلاقية _ ولكن في النهاية لا يمكنك التعامل مع الغرب بدون فهمه، ومثل هذا المتحف يساعدك على هذا الفهم.
في إيطاليا مئات المتاحف والأماكن التاريخية، ففي روما وحدها يوجد 100 متحف تاريخي وحوالي 350 معلما أثريا وعدد من المتاحف الفنية، وهذه العناية هي جزء من شغف الإيطاليين بتاريخهم الذي يوضح أنهم كانوا سادة الدنيا، وهو شغف يمتد لمعظم الشعوب الأوروبية التي تخلد تاريخها وتجني المليارات سنويا من زيارة السياح لهذه المعالم والمتاحف.
العرب لديهم شغف بالتاريخ بكل شك، لأنه الشيء الوحيد الذي يؤكد أن حالة التخلف الحالية هي حالة مؤقتة، وأنه سبقت عصور كان حال العرب أفضل بكثير مما هم عليه الآن، وهو شغف عميق، يجعل رموز العرب كلها رموز تاريخية، ولكنه شغف مغرق في الكسل!!
من النادر طبعا أن تجد المتاحف رغم بعض الجهود الخجولة في معظم الدول العربية لإيجاد متحف أو متحفين، ولكن هذا يتزامن مع إهمال كامل للمعالم التاريخية، والأحياء القديمة، ولك أن تزور مدنا عربية مثل القاهرة وبغداد ودمشق وحلب ومكة وجدة ومراكش وغيرها عشرات، لتفاجأ بأنها خالية تماما من أي جهود للحفاظ على أحياءها القديمة، وتنهار هذه الأحياء تدريجيا دون أن تجد دمعة شفقة عليها.
حتى أقسام التاريخ العربية العتيدة التي تمتلأ بعشرات أعضاء التدريس في مختلف دول العالم العربي تجدها مشغولة حتى النخاع بـ”اجترار” ومناقشة ما كتبه العرب الذي عشقوا التاريخ في زمنهم، دون أن تجد جهدا حقيقيا في توثيق الأماكن المرتبطة بهذا التاريخ في زمننا الحالي حتى يستخدم هذا الجهد في إعادة التاريخ، ودون أن تجد جهدا ذا قيمة في توثيق تاريخنا الحديث كما فعل الأوائل.
وعموما فأنا لا أضع كل اللوم على موظفي أقسام التاريخ، فهم أيضا لم يلقوا أي دعم مادي أو معنوي يجعل لجهود بعضهم قيمة تذكر.
في إيطاليا، توجد جمعيات خيرية تعيش على تبرعات المحسنين هدفها مساعدة أي صاحب منزل يريد تطوير منزله أو ترميمه سواء من الناحية المالية أو من ناحية تقديم الاستشارات، وهناك قوانين صارمة وإجراءات متشددة تجعل التغيير الفوضوي في أي منزل قديم أمرا غير ممكن، وهناك استفادة من المنظمات الدولية التي تهتم بهذا الأمر مثل اليونسكو، وأهم من ذلك هناك عشق للتاريخ يسري في دم كل شخص يجعل هذا الأمر من أولوياته، والأمر نفسه ينطبق على باقي دول أوروبا.
إن من أغرب ما يميز الإيطاليين أن طعامهم “تراثي” محتفظ بالوصفات القديمة، ولذلك لا توجد إضافات ولا “صوصات” من الأنواع الحديثة، وهذا ما يجعل البيتزا الأمريكية أكثر لذة وجاذبية من الإيطالية، والإيطاليون يعرفون هذا ولكنهم لم يسمحوا لمطعم بيتزا أمريكي واحد أن يفتح أبوابه هناك، كما رفضوا تغيير تراثهم.
لقد فقد العالم في العراق بعضا من أهم آثاره وتشوهت بعض أجمل معالمه التاريخية القديمة خلال العامين الماضيين، وبكت المنظمات الدولية وأرسلت البعثات واعتبرت هذا أحد أهم إخفاقات عهد الرئيس بوش، ولكن أحدا في العالم العربي ولا في الحكومة العراقية تجاوب وكأن الأمر لا يزيد عن ضياع بعضا من القطع الثمينة كما ضيعنا الكثير من الأمور من قبل.
طبعا هذا ليس غريبا علينا لأن هناك تضييع بطيء السير بشكل يومي _ لا يستنكره أحد _ لمعالمنا التاريخية، ولولا ما فعلته تركيا في اسطنبول وغيرها لانتهت الكثير من الشواهد المرتبطة بالتاريخ الإسلامي من الوجود.
نحتاج لثورة ذاتية تجعل من التاريخ محورا لاهتماماتنا، وتجعلنا نحافظ على كل قديم، وهذا الثورة تبدأ من الناس وتمر بأقسام التاريخ النائمة وتنتهي في سراديب المنظمات الحكومية التي ستأخذ سنوات طويلة من البيروقراطية حتى تنجز أمورا من هذا النوع.
نحتاج لتأريخ لا يعرف “الأدلجة”، وأقصد بهذا أنه لا يحاول فرض تفسيرات معينة للأحداث على الناس، ولا يهتم بمراحل ويغفل مراحل أخرى بناء على قرار سياسي أو أيديولوجي، التاريخ ملك الجميع، ولا يحق لإنسان أن يتصرف على هواه في ملكية عامة.
سألني صحفي إيطالي رافقني في زيارة “سيينا” بكل استنكار بأنه قرأ على موقع الـBBC على الإنترنت ما يفيد بأن هناك هدم لعدد من المعالم الأثرية في مكة المكرمة، وسألني كيف يحصل هذا؟
أي اقتراحات لإجابة “تبيض الوجه”؟!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية