“والله ليتني أنا اللي مت وهو يحيى. أنا حياتي ما لها قيمة، بس هو حياته مهمة لكل الناس”.. هذه عبارة لشخص قالها وهو يجهش بالبكاء بعد أن عزى في وفاة خادم الحرمين الشريفين على أحد برامج الإذاعة السعودية.
مثل هذه العبارات القوية سمعناها كثيرا في برامج التعازي وعلى الإنترنت، وكلها تعبر عن الأسى والحزن لرحيل الملك فهد، رحمه الله تعالى.
بعض هذه العبارات قادمة من خارج المملكة، ومن أناس كما تدل كلماتهم لم يعرفوا الملك فهد ولم يلتقوا به، ولكنهم تأثروا للغاية حتى البكاء عندما سمعوا بفقدانه.
وبكاء الناس لرحيل العظماء ليس ظاهرة جديدة، بل هي جزء من تكويننا الإنساني الذي يبحث عن العظماء ويحتفل بهم في حياتهم ويسير في ركابهم ويقتدي بهم ثم إذا غادرونا بكينا كثيرا عليهم.
البشر كانوا دائما كذلك والدراسات النفسية حاولت فهم هذه الظاهرة والتنظير حولها ولكنها تتفق في النهاية أن سيكولوجية الإنسان تدفعه دائما لتجاوز ذاته للبحث عن أشخاص آخرين متميزين يجد فيهم ما فقد، ويحقق فيهم أحلامه التي لم يتمكن من تحقيقها، ويستمتع بسماع قصصهم ومتابعة أخبارهم، بل ويرتبط بهم ارتباطا وثيقا يتجاوز أحيانا ارتباط الإنسان بأكثر المقربين منه.
ولهذه الظاهرة ارتباطات سيكولوجية وسوسيولوجية كثيرة، ولكن واحدا من أهم ارتباطاتها، هي حاجة البشر الطبيعية لـ”البطولة” Heroism في حياتهم، نحتاج للأبطال في حياتنا دائما، ويختار الإنسان أبطاله بناء على مجموعة عوامل معقدة تعبر في النهاية عن طريقة تفكيره وتحليله النفسي وعن مجتمعه الذي يعيش فيه، ومثل هذه الدراسات هي التي تفسر لماذا يقرأ العالم عن المشاهير منذ الأبد، ولماذا كان القادة أمرا أساسيا في تاريخ كل أمة، ولماذا يتعلق الناس بشخصيات التلفزيون، ولماذا بكى الناس من الشرق إلى الغرب ديانا وجون كندي وغيرهم كثير.
لقد كان الملك فهد، رحمه الله، بطل الكثيرين الذين عاشوا في كنف قيادته خلال عقدين من الزمن.
خلال تلك السنوات مرت المملكة العربية السعودية والمنطقة العربية بظروف غير عادية على المستوى الخارجي ابتداء بالحرب العراقية الإيرانية والحرب اللبنانية وقضايا الصراع العربي الإسرائيلي الأزلي ثم حرب الخليج الثانية والثالثة، ومرت بأزمات اقتصادية متنوعة، وغير ذلك، ولكن الناس كانوا يشعرون بأن “بطلهم” يتولى هذه الأمور التي تفوق بأبعادها تفكير كثير من الناس، وكانوا يمضون في حياتهم اليومية وتفاصيلها تاركين تلك الملفات الكبيرة لمليكهم ومن حوله.
خلال أزمة الخليج، كان لكل الناس نظريات عما يجب فعله، ونظريات عن التأثيرات المستقبلية، وقصص عما يحدث، ولكن كان كل هذا حديث مجالس، بينما كان الجميع يخلد للنوم العميق بعد ذلك، وكثير منهم يعرف في قرارة نفسه أن هناك من سيتدبر الأمور بالشكل اللائق، وبالفعل أثبتت الأيام أن هؤلاء الناس كانوا يفكرون بالشكل الصحيح.
ليس هذا فحسب، فذلك الرجل العظيم الذي يحمل كل هذه الملفات الثقيلة يخرج على الشاشة بشوشا مثلهم، ويرى الناس الطيبة في خطاباته، ويعيش الناس أخبار إنجازاته يوما بعد يوم، فتكتمل صورة “البطل” الذي مثل فقدانه بعد ذلك صدمة حزينة رغم أنها أمر حق على كل بشر.
“لا أصدق أنه مات، هل أنتم متأكدون من الخبر أم أنها إشاعات؟”.. قالها أحد المعلقين مجهولي الهوية على الإنترنت عندما تم بث الخبر الحزين، والنفس تميل للإنكار عادة كلما فاجأها خبر غياب البطل حسب ما تقول الدراسات النفسية، وهو ما يفسر موقف عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عندما جاءه خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا فمعظم الناس لا يموت الأبطال في أذهانهم بل يبقون خالدين في مكان ما يلجؤون إليهم كلما احتاجت نفوسهم إليهم.
إنني أفتقد دراسات “البطولة” العربية رغم أنها فرع هام من الدراسات التاريخية والأنثربولوجية، ورغم أنها فرع علمي مؤسس بشكل جيد في الغرب وفي اليابان ونقله لن يكون مهمة صعبة، بل سيكون ملئا لفراغ هام في حياتنا يشرح لنا الكثير من ارتباطنا بهؤلاء القادة الذين رسموا طريق حياتنا عبر القرون.
الناس يحتاجون الأبطال حتى لو كانوا متخيلين، ولذا يشاهد الناس أفلام “رامبو” و”باتمان” وغيرهم، ويحب الناس الأبطال صورا نزيهة عن كل خطأ، وهو ما يفسر حب التاريخ لسرد مناقب الرجال أكثر من مساوئهم رغم أن كل البشر خطائين، والناس يصدمون بغياب الأبطال وهذا ما يفسر حزننا خلال الأسبوع الماضي على غياب أبي فيصل رحمه الله تعالى.
كل النفوس الآن متجهة لبطولة الملك عبدالله وقيادته، أعانه الله على حمل المهمة، مهمة أن ننام بنفوس راضية بينما هو ساهر علينا، كما كنا دائما.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية