درس النجاح الأول: لا للحكومة الكبيرة

من قسم منوعات
الأحد 13 نوفمبر 2005|

استقبل الناس أخبار احتمال إيجاد محافظات جديدة في المملكة العربية السعودية وبالتالي إعادة تقسيم بعض المحافظات الكبيرة بالكثير من الحماس والسعادة، ليس فقط لأن الناس تحب “التغيير من أجل التغيير” بل لأن هذا أيضا سيؤكد على خصوصية هذه المناطق، ويعطيها _ حسب ما يرون _ تركيزا أفضل وربما اهتماما أكبر على مستوى الخدمات الحكومية.

لكن هناك سبب آخر يدعو أيضا للحماس لمثل هذه التغييرات المحتملة وهو أن تقسيم أي دولة ضخمة، وخاصة إذا كان مستواها الاقتصادي متقدما وبالتالي مستوى الخدمات المتوقعة عاليا لدى الحكومة والناس، هي وصفة عالمية للنجاح تبنتها الدول الكبرى والمتقدمة، وصارت جوابا سهلا لعلاج ضخامة المسؤوليات التي تتحملها الحكومة المركزية في عاصمة الدولة.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا والتي تمثل أضخم اقتصاد في العالم، تجد أن الحكومة المركزية في العاصمة واشنطن محدودة بعدد من المباني في منطقة صغيرة يمكن قطعها سيرا على الأقدام _ باستثناء البنتاجون _ بينما الكثير من الخدمات الحكومية مقسمة على الولايات والمدن.

بل أكثر من ذلك تجد مدينة كبرى مثل لوس أنجلوس مقسمة في الحقيقة لعدد كبير من المدن، لكل واحدة منها مجلس للتعليم والصحة وترعى خدماتها بنفسها، مما يعني التقليل من مركزية عاصمة الولاية فضلا عن عاصمة الدولة إلى أقصى حد ممكن.

هذه القضية بالذات هي أحد أهم الفروق بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، الحزب الجمهوري يرفع شعار “لا للحكومة الكبيرة” ويحاول دائما تصغير البرامج الحكومية الفدرالية وإنفاق المال على حكومات الولايات، بينما يؤمن الحزب الديمقراطي _ كما رأينا في عهد كلينتون _ بأن الحكومة الفدرالية يجب أن تمتلك الكثير من القوة حتى تستطيع رفع المستوى العام للخدمات من خلال وضع معايير أفضل ومراقبتها بشكل أقوى.

ولكن في النهاية هناك اتفاق عالمي في مبادئ “الإدارة العامة” على أن الحكومة المركزية مهما كانت كبيرة، يجب ألا تستأثر بالكثير من الصلاحيات، وأن تبقي الكثير من المهام التنفيذية لتطبيقها في الإدارات والفروع.

في رأيي الشخصي كان هذا سببا طبيعيا لنجاح مدينة مثل دبي على تحقيق ما حققته خلال فترة بسيطة، وذلك لأن حكومتها استطاعت أن تحول كل جزء من أجزاء المدينة وأن تصيغ مواردها وطاقاتها ونقاط تميزها في قطعة فنية متكاملة لا تملك إلا أن تقف معجبا بها.

هل من الممكن تحقيق هذا النجاح في حالة كان مثل هذا التركيز على التفاصيل والموارد والأهداف ممتدا إلى دولة كبيرة كاملة؟

الجواب حسب ما تؤكده التجارب العالمية هو: “غالبا لا”.

لقد صار هذا جزءا من التراث الإداري العالمي بأن التحدي القائم على إدارة دولة ضخمة يصبح شديد الصعوبة ويحتاج قدرات متميزة جدا حتى يحقق النجاح المطلوب، وصار الحل دائما هو تجزئة المسؤوليات بحيث تصبح الحكومة المركزية مسؤولة عن أشياء محدودة جدا بدلا من إدارة كل التفاصيل لأن مثل هذه الإدارة أمر شبه مستحيل نجاحه بنفس المستوى.

لهذا السبب كان الحل بالنسبة لكثير من دول العالم هو التخصيص، وهو حل أكد نجاحه، والسعودية كانت أحد الدول التي مرت بقصة نجاح جميلة مع التخصيص، حيث استطاعت أن تخصص مرافق عملاقة دون أن تسبب أزمات في الوظائف أو ضغط على الاقتصاد أو انحدار في مستوى الخدمات.

لكن التخصيص يمثل حلا من الحلول والحل الآخر الأكثر أهمية هو البعد عن المركزية، والحرص على توزيع المسؤوليات بشكل أفقي على المناطق والمحافظات بدلا من توزيعها بشكل عمودي على الوزارات، وهذا ينطبق على بعض القطاعات الخدمية بشكل خاص، مثل الصحة والتعليم والشؤون البلدية والتنموية وتطوير الاقتصاد المحلي وغير ذلك.

بعض الخبراء الإداريين الذين ناقشوا هذه القضية تناولوا مشكلة الرقابة والمحاسبة، حيث تصبح هذه المسألة أصعب بكثير عندما تتوزع هذه الخدمات بشكل أفقي، بسبب البعد الجغرافي، بينما يمكن التحكم في هذه الأمور بشكل أفضل في الإدارة المركزية، وربما كان هذا السبب الذي دفع الكثير من دول العالم لتجنب الإدارة اللامركزية، وخاصة أن القطاع العام دائما يحاول معالجة مشكلة الفساد الإداري، التي لو تم التساهل معها لصارت المشكلة أكبر بكثير.

الحل كما تطرحه بعض الدراسات هو اعتماد القطاع العام لحلول القطاع الخاص، فهناك شركات كبرى لها فروع عديدة جدا حول العالم، وهذه الفروع لا تدار بطريقة مركزية، لإن الإدارة المركزية تفشل عادة في تحقيق الأرباح مقارنة بالإدارة اللامركزية، وما يفعله القطاع الخاص عادة هو بناء معايير كمية وكيفية للميزانيات والأهداف، ويصير على الفرع العمل على وضع ميزانية مرتبطة بتحقيق الأهداف ثم العمل على تحقيقها في جو من التنافس والتحفيز للمدراء.

بالنسبة للغربيين، كان الحل هو وضع رقابة من المجالس المحلية المنتخبة، وهذه فكرة أخرى يمكن تطبيقها في المملكة بحيث يكون لمجالس المناطق والمجالس البلدية صلاحية مراقبة تنفيذ الخطط ومتابعة الميزانيات، وإن كان البعض قد يقول بأن هذه الفكرة لا يمكن الاعتماد عليها تماما بحكم أن هذه المجالس ما زالت تجربة حديثة لم تترسخ بعد في التقاليد الإدارية العامة.

آخرون طرحوا مشكلة أخرى، وهي أن الكفاءات المميزة تذهب عادة إلى الإدارة المركزية في العواصم، بينما تبقى الإدارات المحلية بعيدة عن مثل هذه الكفاءات، والحل فيما أظن معروف بأنه التدريب المستمر وتوزيع الكفاءات على المناطق، مع الكثير من التفاؤل والثقة في إمكانيات الموظفين في الإدارات المحلية.

الناس تعشق أوطانها، ويعشقون مناطقهم، ومدنهم، وأحيائهم، وحاراتهم، وجزء من عشق الوطن الحماس له والعمل ليل نهار لتنميته، وعندما يشعر الناس أن جهودهم ستكون لصالح الأرض الصغيرة التي نشؤوا عليها وارتبطت مشاعرهم بها، فسيعلمون بجدية وحماس أكبر، ولعل هذا سر آخر من أسرار وصفة النجاح العالمية القائمة على عدم المركزية!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية