ما يدعو إليه هذا المقال هو بالضبط ما يقوله العنوان: إلغاء اللغة العتيقة “اللغة العربية” من حياتنا واستبدالها باللغة الأنيقة “اللغة الإنجليزية”.
وأنا طبعا أعرف أن هذا سيثير غيظ الكثيرين من القراء، خاصة غير الواقعيين منهم، والذين يهوون “تعقيد” الأمور و”التقعر” في النقاش، ولكن اسمحوا لي خلال سطور أن أشرح حججي لعلي أستطيع إقناعكم.
أنا ليس لي موقف من اللغة العربية، فهي لغة “محترمة” ويقال بأنها “كانت” لغة عظيمة، وأن معاجمها تحتوي عشرات آلاف المصطلحات، وأنها من أقوى اللغات بلاغة وترابطا واتساقا.
ولكن لنكن عمليين: من يتحدث اللغة العربية الآن؟ الجواب كما أظن أن الجميع يتفقون عليه: “لا أحد”.
نعم هناك اللهجات العامية، وهذه اللهجات حسب معايير اللغات العامية تعتبر في أسفل جداول اللغات، لأنها لا تكتب ولا تقرأ وليس لها معاجم منظمة، ويتداخل فيها الحابل بالنابل، ولذا لا يمكن حتى الآن استخدامها بشكل جاد في الكتب المدرسية والنشرات الإخبارية.
وعموما فهذه اللهجات تفرقنا ولا تجمعنا، وتعاني في إجمالها مما تعاني منه اللغة العربية.
اللغة العربية في واقعنا الحالي لغة “على الهامش”، مفرداتها وقواعدها وضعت قبل مئات السنين وتوقفت على ذلك الحال بينما العالم يتقدم والحياة تتجدد بمعدلات رهيبة، ونحن ليس عندنا الوقت الكافي لخلق كلمات جديدة لكل مستجدات حياتنا.
ولأنه لا توجد لدينا مصطلحات عربية جديدة فنحن نستخدم تراكيب طويلة لشرح ما نريد التوصل إليه ولذا تجد أن الترجمة “الحرفية” لصفحة إنجليزية تأخذ منك صفحتين بالعربية حتى تستطيع توصيل نفس المعنى.
وحتى المفردات القديمة للعربية، فنحن نستخدم فقط بضعة آلاف منها، أما الباقي فهي طلاسم لا تختلف عن طلاسم معجم أسباني أو صيني، ولذلك فنحن محصورون حين نستخدم العربية بعدد قليل من الكلمات مقارنة بمعظم اللغات “المحترمة” الأخرى على وجه الأرض.
ثم إننا في زمن نحتاج فيه إلى “الحوار” والتواصل مع شعوب الأرض القوية التي تحدد مصيرنا وتحكم مستقبلنا، وهؤلاء سينظرون لنا بعطف أكثر بلا شك، ويتواصلون معنا بشكل أفضل لو كنا جميعا نتحدث الإنجليزية، وحينها سيعترفون بجامعاتنا ويقرؤون كتبنا وينتهي سوء فهمهم لنا، وهذا قد يوفر علينا الكثير من الضحايا، بعد أن ثبت لنا أن سوء الفهم أدى لشن “بعض” الحروب، ومقتل أو اعتقال البعض الآخرين.
ولماذا أحتاج لإقناعكم أصلا فنحن نؤمن بإلغاء اللغة العربية في أعماقنا ونجامل بعضنا البعض حين لا نتحدث عن ذلك؟
لا أحد منا يرسل أبناءه لأي مكان ليتعلموا اللغة العربية، ولكن ليتعلموا الإنجليزية أو حتى الفرنسية، ولا أحد منا يطلب من أفراد الأسرة أن يتحدثوا اللغة العربية الفصحى، ولكن الجميع يحاول بجهد متفاوت أن يتحدث الإنجليزية ويرطن ببضع كلماتها للتدرب عليها.
لا توجد إعلانات مدراس تفخر بقوة مدرسي اللغة العربية وأنهم جاءوا من المكان الفلاني الذي يثبت جدارتهم، بل كل الإعلانات عن اللغة الإنجليزية.
في معظم اجتماعات الشركات في مختلف أنحاء العالم العربي، يسعى الجميع ليتحدث الإنجليزية حتى لو كان الحضور كله عربيا، ومن لا يعرف فهو لا يجرؤ على قول ذلك لأنه في الغالب قد أخذ دورة تدريبية على حساب الشركة في دبي أو بيروت أو لندن لتعلم اللغة الإنجليزية.
لا توجد لدينا جمعيات أو مؤسسات للمحافظة على اللغة العربية وتطويرها، وكان هناك مجمعات للغة العربية في دمشق والقاهرة وبغداد، ثم زالت، ولا أحد يعرف متى وكيف ولماذا لم يعد لها وجود.
بالمقابل تجد مراكز ضخمة مليئة بآلاف الموظفين تعمل ليل نهار لإصدار معجم وبستر السنوي أو معجم أكسفورد أو المعجم الأمريكي، هذا بالرغم من أن لغتهم _ ما شاء الله عليهم _ قد نضجت ولا تحتاج الأمور كل هذا التعب.
جامعاتنا العربية المميزة تدرس باللغة الإنجليزية، برامجنا وأفلامنا الجذابة إنجليزية مع نص عربي، أدلة كل المنتجات إنجليزية مع ترجمة عربية رديئة، وكل ما حولنا إنجليزي نشوهه بترجماتنا ولم نكن لنحتاج إليها لو تحدثنا الإنجليزية.
البعض قد يسأل عن الأدب والشعر والثقافة، وأنا أسألكم بالله عليكم دعونا نتوقف عن المجاملة ونسأل هل لدينا أدب أو شعر أو ثقافة.
هناك روائع من الأزمان الماضية، ولكن هذا انتهى، ونحن الآن أمام كم من الدواوين التي لا تقرأ، وروايات تصلح فقط لإحضار النوم لمن عنده أرق “إلا كنت تبحث عن الكلمات التي كفر بسببها الروائي”، أما اللغة الإنجليزية فستفتح لك الباب مع أدب ناضج جميل يأخذ بلبك، يعني شيء “متعوب عليه”.
البعض قد يحدثني عن نظريات تربط التقدم بتقدم اللغة، وتربط الهوية بتماسك الهوية العربية، وتقول بأن الأمم المتقدمة هي أمم تتحدث لغتها الأصلية بالتزام كامل بالقواعد، وأنا أعرف هذه النظريات، التي آمن بها الفرنسيون والإنجليز، وسعوا أيامها لنشر لغاتهم بسببها، ولكن عندما يأتي اليوم الذي نقرر فيه التقدم، وهو لن يأتي في القرن الحالي على الأقل، فحينها نفكر في اللغة العربية، ثم مالها اللغة الإنجليزية، لغة محترمة وتتكلم بها شعوب متقدمة، وسيكون كل شيء مناسبا لمشاريع التقدم عندنا.
أنا لا أطالب بما يرفضه الناس، بل لو تأمل أي شخص واقعنا لوجده ما يريده الناس، لم أجد يوما حملات إعلامية لدعم اللغة العربية، ولم أر يوما مؤتمرات لرفع مستوى اللغة العربية، أو للتفكير في نشرها خارج إطار العالم العربي، ولم أعد أر من يعتب على من يلغي العربية الفصحى ويتحدث العامية الركيكة أيا كانت أصولها.
بل إنها فكرة مثيرة للضحك، أن تطلب الآن مسلسلات ناجحة بالعربية الفصحى _ إلا إذا كانت تاريخية _ تخيل مثلا “طاش ما طاش” بالعربية الفصحى.
هناك حجة واحدة فقط ليس عندي إجابة عليها: وهي أن العربية هي لغة القرآن الكريم، وأن التخلص منها وإلغاءها الفعلي من حياتنا يعني بعدنا الكامل عن كتاب الله، وأنا ليس عندي رد على هذه الحجة، ولكن لو كان هناك عدد لا بأس به من الناس يؤمنون بهذه الحجة.
فسؤالي حينها ببساطة: لماذا لم نعد نتحدث اللغة العربية؟
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية