تخيل أن صلحا مشابها لصلح الحديبية عقد في أيامنا هذه.
قائد المسلمين ينطلق ومعه الجموع بهدف العمرة، فيقف من يقف في وجهه، ورغم القدرة على الحرب، يقبل قائد المسلمين بالصلح والعودة دون عمرة، ويتنازل عن الكثير مقابل ما يبدو وكأنه القليل جدا من الإنجازات.
هكذا بدت الأمور حينها لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهذا ما سبب غضبه المشهور، ولو حصل الأمر نفسه في أيامنا هذه، لخرج آلاف الناس غاضبين، ولقامت المظاهرات، ولاتهم الجميع هذا القائد بأنه عميل باع نفسه مقابل دراهم معدودة، ولامتلأت ساحات الإنترنت بالهجوم والشتائم والترحم على الإسلام وأهله.
لكن رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، كان عبقريا عظيما، وأثبتت الأيام أن صلح الحديبية هو من الأيام البيضاء في مسيرة المسلمين التي انتهت بفتح مكة وبداية تأسس الدولة الإسلامية.
إن تذكر صلح الحديبية يجعلني أقف عند موضوع أراه في غاية الأهمية وخاصة في مثل هذه الفترة العصيبة، وهو موضوع العلاقة بين الدين والسياسة.
دعونا أولا نحدد بأن السياسة هي تكييف الحقيقة والحق بما يتوافق مع الواقع.
في الممارسة السياسية، يصبح الوصول إلى الأهداف والتأقلم مع تعقيدات الواقع ضرورة تتطلب في كثير من الأحيان تجاهل الحقيقة وتأجيل العمل بما هو صحيح، والالتفاف للوصول للهدف بدلا من سلوك الخط المستقيم.
الدين، من جهة أخرى، ونخص هنا دين الإسلام حتى لا يتشعب بنا الموضوع، معني بالدرجة الأولى بتقرير الحق وتوضيح الحقائق وتثبيتها.
هذا التعريف يشرح ببساطة لماذا كانت العلاقة بين “السياسة” و”الدين” متوترة في كثير من مراحل التاريخ، ويشمل هذا الأديان جميعها، كما أن العلاقة كانت متوترة داخل المؤسسة الدينية نفسها بين أولئك من يعنيهم تقرير الحقيقة والسعي للحق بشكل مباشر لا يقبل أي تنازلات، وبين أولئك من كان حسهم “السياسي” يجعلهم يرون الواقع فيلتفون حوله على أساس أن هذا سيخدم الحق والحقيقة على المدى الطويل.
لكن تأمل سيرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، تشرح الكثير جدا عن هذه العلاقة، وهو أمر أستغرب قلة ما كتب فيه حتى اليوم، لأن هذه العلاقة تمثل جوهر فهمنا للدين ودوره في الفترة الحاضرة.
إذا نظرنا في السيرة النبوية، نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم، “تنازل” عن بعض القضايا الحيوية التي تمثل جوهر الحق والحقيقة لصالح معايشة الواقع ومعالجته، وإن كانت هذه “التنازلات” أدت لتحقيق الأهداف العليا على المدى الطويل وليس المدى القصير، وقصة صلح الحديبية هي مجرد مثال.
على مستوى الأمة، رفض الرسول صلى الله عليه وسلم، التنازل عند مطالب قريش التي تمس جوهر العقيدة ولكنه اتخذ إجراءات كثيرة لمعالجة الموقف بما فيها هجرة بعض صحابته إلى الحبشة والدعوة في السر وأخيرا الهجرة إلى المدينة المنورة، والتي ربما كانت حينها تنازلا عن المواجهة، أو تأجيلا لها حتى يقوى جناح المسلمين وتتماسك جموعهم.
على المستوى الفردي، نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم، عفا عن كثير من أخطاء الصحابة بما فيها قصة الزانية التي سعى الرسول صلى الله عليه وسلم، لتأجيل الحكم عليها تفهما للواقع، وعشرات القصص الأخرى التي لا يتسع المقام لذكرها.
هذا الموقف السياسي لم يكن مجرد ممارسة من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنها كانت بالطبع مؤيدة بالوحي الرباني، فالوحي الرباني لم يأت بتحريم الخمر أو الأمر بالحجاب حتى مهد الرسول صلى الله عليه وسلم، للأمر بالدعوة بما يتوافق مع الواقع، ولعل ما يدعو للغرابة أن الأمر بالحجاب جاء في أواخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومثله الكثير من القضايا “الفرعية” التي أجلت حتى الانتهاء من القضايا الجوهرية المرتبطة بالعقيدة والإيمان والأخلاق.
إن التدبر في مثل هذه السيرة، يؤكد احترام الإسلام العميق لـ”الواقع” ومقتضياته، ويؤكد أن الأمور معتبرة بنتائجها طويلة المدى وليست النتائج قصيرة المدى، وخاصة أننا جميعا ندرك أن النتائج طويلة المدى قد لا تتحقق في حال الإصرار على عدم مسايرة الواقع.
هذه الحقيقة تخالف تماما منطق “التشدد” الذي يسعى دائما لرفض أي “تنازلات” أو “تأجيل” للأمور، ويصر على تطبيق الأمور حرفيا، ولا يسمح بالتفكير في النتائج بعيدة المدى، ولذا كان الحديث النبوي “إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى”، وهو حديث شريف عظيم عميق الدلالة يؤكد أن المتشدد الذي يرفض التعامل مع الواقع يستهلك الموارد “لا ظهرا أبقى” دون أن يحقق النتائج “لا أرضا قطع”.
هذه القضية رغم وضوحها في الشريعة الإسلامية تبدو غائبة جدا هذه الأيام رغم أننا في أحوج ما نكون إليها في هذه الفترة العصيبة من تاريخنا لثلاثة أسباب:
- الأول: كأمة عربية وإسلامية نعيش في حالة تخلف غير مسبوقة، حيث نجلس نحن في أسفل القاع بينما الجميع متقدم علينا في مختلف المجالات، وهذا أمر لا يحتاج لشرح أو تأكيد.
- الثاني: أن الاهتمام العالمي لدول متقدمة جدا علينا بتحقيق السيطرة أو الاستفادة القصوى من مواردنا مع الخوف الشديد من مبادئ الدين الإسلامي وصل إلى حد غير مسبوق بعد أحداث 11 سبتمبر.
- الثالث: أننا نعيش في فترة مختلفة تماما عن زمن التشريع الأول، والزمن الذي كتبت فيه كتب الفقه، وهو يحتاج لفقه جديد، ورؤية جديدة لتعاليم الإسلام وكيفية تطبيقها.
نحن باختصار نحتاج للسياسة بكل أبعادها حتى تسعى بنا للتعامل مع الواقع والتحايل عليه ومنازلته وتجزئته وتركيبه من جديد.
الواقع المر يحاصرنا من كل اتجاه ويضغط علينا نحو المزيد من المرارة، والإصرار على الحق والحقيقة المطلقة في هذا الوقت لا يزيد الأمور إلا سوءا.
لكن حتى نستطيع التعامل مع الواقع نحتاج لأمرين هامين:
- إعطاء الفرصة للسياسي ليعمل على حل المشكلة، ومنحه الثقة، وتأييده، وهذا يشمل تأييد أولياء الأمور، كما يشمل تأييد المثقفين والمفكرين والعلماء والدعاة الذين قد يحملون آراء مختلفة عن منطق النص الظاهري، أو المنطق الديني المباشر، أو التفكير المرتبط بالأهداف قصيرة المدى.
هنا لا أقصد بالتأييد الموافقة على الآراء، وإنما أعنى التسامح الكامل والتأكيد على قبول أحقية الشخص بالاجتهاد لتحقيق الغاية.
- فتح باب الحوار على مصراعيه، وطرح كل القضايا للنقاش، على ألا نجد أنفسنا أسرى في دائرة تحديد الحقيقة، بل مهتمين أكثر بكيفية تحقيق الأهداف على مداها الطويل.
إنني أرى أنها ظاهرة سلبية أن الكثيرين يريدون تغيير الحقائق والخروج بنظريات جديدة وإقناع الناس بها، لأن المجتمع لن يسمح لك بالحركة إلا في إطار ما يراه الحقيقة المطلقة، وأرى أن الأفضل هو التفكير في الاستراتيجية التي تسمح لنا بالوصول للأهداف التي نريد تحقيقها بعيدا عن الرأي الفكري البحت في الطرق التي توصل للأهداف.
إنني باختصار أدعو قادة الرأي والمفكرين والمثقفين والعلماء والدعاة ومن خلفهم الناس وطلبة العلم وطلبة الجامعات أن يعطوا وقتا أطول للتفكير في الحل السياسي الذي يصل بنا إلى شاطئ النجاة، بدلا من استهلاك التفكير في الحل الفكري.
نحن بحاجة ماسة إلى “صلح حديبية”!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية