هل يمكن لأي إنسان أن يصبح عبقريا؟

من قسم منوعات
الثلاثاء 01 يناير 2002|

هناك خلاف قديم بين علماء النفس فيما إذا كان النبوغ والعبقرية موهبة في الإنسان أو أنها أمر يمكن اكتسابه، وهو الخلاف الذي لم  يتأتى لأحد بعد أن يجد الجواب الشافي له. 

لكن عموما ما يراه معظم الباحثين المهتمين بقضايا العبقرية والنبوغ حاليا هو أن الذكاء الحاد يأتي بسبب جينات خاصة من نوعها، وأن عوامل مثل العوامل النفسية أو الجهود التي يبذلها الإنسان في تطوير ذاته هي عوامل محدودة الأثر، ولعلك لا تجد بينهم أحدا يرى أن الأداء العبقري في أي مجال من المجالات ممكن اكتسابه لأي شخص يرغب ذلك.

هذا بالطبع مخالف لوصفة توماس أديسون، أحد أعظم عباقرة العصر الحديث، والذي قال بأن العبقرية هي “1% إلهام + 99% جهد مضني”.

أيضا هذا مخالف لبعض الآراء والدراسات التي بدأت تظهر هنا وهناك وتقول بأن كل شخص يمكنه تحقيق الأداء العبقري في المجال الذي يريده إذا عمل بما يكفي على تحقيق ذلك.

واحد من هؤلاء الباحثين هو أندرز أريكسون، وهو عالم نفس في جامعة ولاية فلوريدا الأمريكية، والذي توصل لهذه النتيجة بعد عشر سنوات من البحث المتواصل في هذه القضية.

الرد البديهي على رأي أريكسون، هو ما يسميه د. بريان باتر وورث، عالم الدماغ بجامعة “لندن كوليج” بـ”حجة موزارت”.

وتقول حجة موزارت، بأنه من المستحيل لأي شخص أن يصبح عبقريا في مجال ما كما أصبح موزارت عبقريا في مجال الموسيقى من خلال بذل الجهد فقط، بل لا بد أن تكون هناك موهبة ما كتلك التي امتلكها موزارت وغيره من العباقرة في مختلف المجالات وحرم منها أقرانهم المنافسين لهم.

جواب د. أريكسون، على “حجة موزارت”، هو  أنه حتى موزارت استطاع أن يحقق إنجازاته بالكثير من العمل ومثله العباقرة الآخرون، ويرد على القصص التي تروى عن موزارت بأنه منذ طفولته ظهرت عبقريته الخارقة قبل أن يتلقى أي تدريب بأنها قصص بالغ فيها محبو العباقرة وتحولت لأساطير لا يصح بناء الحقائق العلمية على أساسها، ولذا فهو يطالب بضرورة دراسة حياة العباقرة الذين ما زالوا يعيشون في يومنا هذا.

ويقدم د. أريكسون، نظريته المتكاملة في تفسير العبقرية والتي يصل بها في النهاية إلى أنه من الممكن لكل فرد أن يصبح عبقريا إذا شاء ذلك.

يقول أريكسون، بأن العباقرة يطورون عادة ذاكرة قوية لتخزين المعلومات ذات الأهمية لهم في موضوع ما.

وإذا كان من المعروف لعلماء النفس وفي علم الدماغ أن ذاكرة الإنسان تنقسم إلى قسمين: ذاكرة نشطة قصيرة المدى، وذاكرة طويلة المدى، فإن العباقرة حسب هذه النظرية يتميزون بأنهم يرتبون المعلومات الهامة لهم بطريقة فعالة في الذاكرة طويلة المدى بحيث يكون على الذاكرة النشطة قصيرة المدى الاستفادة منها عند الحاجة إليها.

ويضيف د. أريكسون، بأن هذا النشاط غير العادي للذاكرة هو ما يميز المتفوقين في كل المجالات بدءا بالشطرنج ومرورا بالطباعة على الكمبيوتر وانتهاء بالجولف، وهو نشاط يمكن تطويره واكتسابه حسب اعتقاد أريكسون.

ولعل ما يدعم هذه النظرية التجربة التي قامت بها ناثالي زوريو-مازوير، عالمة الدماغ بجامعة كان بفرنسا والتي استطاعت مع زملائها من الباحثين قياس نشاط الدماغ لأحد عباقرة الرياضيات وهو يقوم بالعمليات الحسابية المعقدة.

هذا العبقري، واسمه روديجر جام، يتميز بأنه يستطيع حساب الجذر الخامس لرقم طويل يزيد عن المليار في ثوان معدودة ويستطيع حساب أي رقم أقل من 100 بعد ضربه في نفسه تسع مرات، وعندما يطلب منه قسمة رقم على الآخر فإنه سرعان ما يأتي بالجواب ليعد حوالي 60 رقم على يمين الفاصلة بالنسبة للناتج.

قامت د. ناثالي، بقياس عمل دماغ جام، والذي يقوم بعمليات رياضية يستحيل على غيره من عموم المتخصصين في الرياضيات إنجازها في أول دراسة من نوعها نشرت في مجلة “علوم الدماغ الطبيعية”، وتم مراقبة دماغ جام، من خلال جهاز متخصص في ذلك يسمى positron-emission tomography PET، كما راقبوا النشاط الدماغي لعدد آخر من الناس للمقارنة معهم ووجدوا أن الجميع يستخدم 12 منطقة في الدماغ أثناء الحساب، لكن جام، يزيد عن هؤلاء باستخدام خمس مناطق إضافية أخرى، علما أن ثلاثة من هذه المناطق قد ربطتها البحوث العلمية السابقة بالذاكرة طويلة المدى.

ما اكتشفته هذه الدراسة أن جام، لا يملك أي قدرات خارقة من نوعها، وإنما يتميز بأنه  يحفظ آلاف الطرق والنتائج والمعادلات الرياضية والحسابية في ذاكرته طويلة المدى ليستخدمها بسرعة عند الحاجة إليها.

المميز في جام، أنه لم يولد بهذه القدرة الاستثنائية بل كان شخصا عاديا حتى بدأ في سن 20 عاما تخصيص 4 ساعات من وقته يوميا للتدرب على العمليات الحسابية مما يعني اهتمامه غير العادي بها.

طبعا هذا يتوافق مع ما يقوله د. أريكسون، والذي يؤمن أن تحقيق ذلك ممكن لأي شخص يتدرب بما فيه الكفاية لتحقيقه.

في الحقيقة هناك دراسة أخرى قام بها د. أريكسون، نفسه قبل عشرين عاما حين أحضر مجموعة من الأشخاص في مختبره العملي وحاول تطوير قدراتهم في مجال حفظ الأرقام العشوائية.

وإذا كانت التجربة تقول أن الشخص العادي يستطيع عادة حفظ سبع أرقام متوالية عشوائية وترديدها فإن د. أريكسون، استطاع زيادة هذه القدرة بعد عام من التدريب لدى اثنين من المتدربين إلى 80 أو حتى 100 رقم متوالية.

تجربة ثالثة في نفس الاتجاه قام بها عالم بولندي اسمه لازلو بولجار، والذي أراد تحدي النظرية التقليدية في تعريف العبقرية، وقام هو وزوجته بتدريب بناته على لعب الشطرنج حتى صاروا كلهم من أبطال العالم في الشطرنج مثبتا بذلك أن التدريب وحده يمكن أن ينتج عباقرة في مجال معين.

ففي عام 1992، صار كل البنات الثلاثة أحد أفضل عشرة في العالم في مجال مباريات الشطرنج النسائية، وكانت إحداهن أصغر من يحصل على لقب “جراند ماستر” في تاريخ الشطرنج وقد تصبح يوما حسب توقعات من يراقب مبارياتها  بطلة للعالم في الشطرنج.

كان بولجار، في تدريبه لبناته يطبق نظرياته التي كان قد نشرها في كتاب بعنوان “تربية عبقري!”، وصار متخصصا بعد ذلك في قضايا التربية غير العادية للأطفال.

ولكن السؤال القديم يبقى قائما: هل كل طفل يتلقى نفس التربية يمكن له أن يصبح عبقريا؟

بالنسبة لإلين وينر، عالمة النفس بكلية بوسطن والمتخصصة في دراسة العلاقة بين التعرض للفنون والإنجاز الأكاديمي، ترى أن الجواب على هذا السؤال هو “لا”، وتقول أن من يستطيع فعل ذلك هم فقط الأطفال الذين لديهم “الرغبة الجامحة في التفوق”، وهو شعور قد ينمو لدى الطفل أثناء الساعات المكثفة التي يبذلها للتدريب على موضوع معين.

هذا بالطبع ليس جديد تماما، فحتى الدكتور أريكسون، يرى أنه قد يكون هناك جينات معينة لدى الطفل تجعله مستعدا للعيش ضمن جدول تدريب مكثف مقارنة بأقرانه الذين قد يفضلوا قضاء هذا الوقت في اللعب واللهو.

أو لنقل بشكل آخر، حتى لو لم يكن لدينا عباقرة ونوابغ منذ الولادة فإن هناك موهبة “القدرة على الإنجاز”، ولكن المجال الذي يحقق فيه هؤلاء العباقرة الإنجاز يتحدد تماما حسب البيئة أو الظروف أو التربية التي تعرضوا لها في صغرهم وجعلتهم مهرة في مجال ما.

لا بد أن نذكر أن هناك الكثير من علماء النفس الذين يرفضون هذه النظرية ويرون أن العبقرية في جزء منها موهبة تأتي مع الإنسان منذ ولادته، ومن هؤلاء د. ديين سيمونتون، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا بمدينة سان دياجو الأمريكية، والذي أكد نظريته في كتاب له نشرته جمعية علم النفس الأمريكية يتناول فيه حياة علماء النفس العباقرة.

لم يكن بين هؤلاء د. أريكسون، صاحب النظرية المخالفة، لكن بعد عشر سنوات من الآن قد يدخل د. أريكسون، قائمة العباقرة من علماء النفس فقط إذا امتلك “الرغبة الجامحة” التي تدفعه للعمل على ذلك، وهذا بالتأكيد سيقدم إثباتا آخر لنظريته الفريدة من نوعها.