لا يكاد يعرف الغربيون شيئا عن الثقافة الإسلامية والعربية إلا النزر اليسير المرتبط بالأحداث السياسية والاقتصادية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط ويهتم بها الإعلام الغربي بطريقة أو أخرى، وهو تناول سلبي عادة شأن الإعلام الغربي مع كل الثقافات الخارجة عن منظومة الثقافة الرأسمالية_الديمقراطية.
حتى مراكز الدراسات والأبحاث وأقسام دراسات الشرق الأوسط في الجامعات الغربية _ باستثناء مراكز الأبحاث الحكومية المرتبطة بأجهزة الاستخبارات وباسثتناء المستشرقين الألمانيين _ فإنها تعاني من فقدان القدرة على العثور على بؤر تركيز واضحة تساعدهم على فهم الثقافة الإسلامية والعربية، أي أن الباحث الغربي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط يجد نفسه أمام ثقافة ذات تراث وتاريخ ضخم جدا ولا يعرف من أين يبدأ في تحليله ويعجز عن إيجاد العوامل الرئيسية في تشكيل الثقافة العربية والإسلامية القديمة والمعاصرة، فتراه في النهاية يختار موضوعات فرعية جدا يضيع فيها عمره محاولا تفكيك ألغازها وهو في النهاية لا استطاع فهم الثقافة الإسلامية ولا حتى استطاع فهم القضية نفسها المتخصص فيها بحكمه لا يفهم الإطار الثقافي التي انبثقت منه.
يمكن ملاحظة هذا بسهولة من استعراض عناوين الكتب الأكاديمية المؤلفة في الغرب عن العالم العربي ومضمونها ذي المعلومات الدقيقة والمكثفة ولكنها سطحية في نفس الوقت في تحليل الظاهرة، فكتاب أكاديمي مثلا عن “ظاهرة البطولة في شعر أبي نواس” كان قد استنفد وقت الباحث في فهم شعر أبي نواس، ومعنى البطولة لديه وفهم العصر العباسي وترى معلومات في غاية الكثافة وتطبيق لنظريات فلسفية غربية عميقة على ظاهرة البطولة دون أن تجد فهما واضحا لما يعنيه أبو نواس، أصلا للعالم الإسلامي _ كونه لا يمثل الثقافة الإسلامية والشخصية العربية في العصر العباسي _ ودون أن تجد فهما للثقافة التراثية الأصلية التي صاغت معنى البطولة في العقلية المسلمة في ذلك العصر.
المتسبب الأساسي في ضياع وجهة المستشرقين الغربيين عن فهم التراث الإسلامي وبالتالي ضياع فرصة الاستفادة منهم كسفراء للثقافة الإسلامية في الغرب هو تقصير المسلمين والعرب في إنتاج كتب أكاديمية موسوعية تشرح الثقافة العربية والإسلامية للغرب من وجهة نظرنا نحن، وليس من وجهة نظر المستشرقين الغربيين الذين ألفوا كل الموسوعات الإسلامية الموجودة في المكتبات الأمريكية بما فيها الموسوعة الأخيرة التي تشرف عليها حاليا جامعتي أكسفورد البريطانية، وجامعة جورج تاون الأمريكية، وستظهر في العام القادم.
هذه المقدمة الطويلة حول واقع الثقافة الإسلامية في الغرب هو تمهيد لا بد منه لفهم الطريقة التي نظر بها المستشرقون الغربيون إلى مكة المكرمة، وهي طريقة كما ذكرت سابقا مليئة بالمعلومات ولكنها تفقد الطريقة الصحيحة في التحليل.
ولعل ما زاد الطين بلة بالنسبة للغربيين أن زيارة مكة المكرمة واقعيا غير متاحة شرعا لغير المسلمين، ولولا جهود الحكومة السعودية وتفضلها كل عام بنقل شعائر الحج بالإضافة لنقلها الدائم للصلوات في الحرم المكي الشريف مجانا لكل أنحاء العالم وتسهيلاتها المتعلقة بتصوير الأماكن المقدسة، لرأينا اجتهادات سطحية وخاطئة تماما في محاولة فهم “مكة المكرمة”، ولكن الأفلام الوثائقية والتغطية الإعلامية التي تمت في الأعوام الأخيرة كان لها الدور في إيضاح صورة مكة المكرمة للأكاديميين الغربيين ولعموم الناس في الغرب أيضا.
ولعل التمعن في كتابات الأكاديميين الأمريكيين الذين اهتموا بمكة المكرمة مثل ريتشارد دان، وهوو سلون، ولانسي هوارد، وسي إي ماكيني، وآل سينفيلد، وغيرهم، يوضح ما سبق قوله، فمكة المكرمة بالنسبة لهم “مدينة فاضلة” يحرم فيها إيذاء الحيوانات ويحرم فيها التوسع في العلاقات العاطفية وشرب المسكرات ويتحدث فيها الناس كلهم بلطف شديد مع بعضهم البعض ويلبس أهلها دائما ملابس بيضاء تمنع التمييز بين الغني والفقير من أهلها، وهي مدينة سكانها من كل الأجناس من المسلمين، وإن كانت مبانيها ووسائل مواصلاتها قديمة وتراثية.
ولعلك تلاحظ في هذه الصورة أنها خاطئة بسبب أمرين أساسيين:
- عدم فهم هؤلاء الكتاب للإسلام بشكل عام فشرب المسكرات مثلا والعلاقات بين الجنسين غير المبنية على الزواج أمور محرمة في الإسلام بشكل عام وليس في مكة خصوصا، ولعل ما ساعد في التباس الأمور على هؤلاء المستشرقين مقارنتهم مكة المكرمة _ حسب ما سمعوا عنها _ ببعض العواصم العربية التي زارها هؤلاء المستشرقين!!.
- عدم فهمهم للفرق بين ما يحرم ويجوز للحاج ووضع مكة المكرمة في فترة الحج _ وهي الفترة التي يحصل خلالها تغطية شعائر الحج من خلال الإعلام الغربي _ مقارنة بوضع مكة المكرمة في باقي أيام السنة.
أضف إلى ذلك أن هناك بعض التفسيرات الطريفة التي تأتي بسبب ظن الغربيين أن كل ما في مكة المكرمة يأتي من البعد الديني لها، فمثلا اعتقدت طالبة دراسات عليا أمريكية بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا، والتي كتبت رسالة ماجستير عن مكة المكرمة وحصلت على عدد من المراجع من السفارة السعودية في واشنطن أحدها من إصدارات “أمانة العاصمة المقدسة”، أن الأمانة سميت بهذا الاسم لأن مكة المكرمة هي “أرض الله” وأن من يعملون عليها هم “مؤتمنون” عليها، ولذا سميت بأمانة العاصمة المقدسة غير مدركة أن هذه تسمية إدارية رسمية لكل بلديات المدن الكبرى في المملكة العربية السعودية وليست ذات بعد ديني كما اعتقدت الباحثة.
ولعل من المهم هنا في استعراض الصورة التي يحملها الغربيون عن مكة المكرمة ملاحظة أن هناك اعتقادا شائعا بينهم أن المسلمين يقدسون مكة المكرمة لأنها مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذا جعل المسلمين “ينسجون الأساطير الفلوكلورية” عن مكة المكرمة، فيروون قصص عن زيارة إبراهيم عليه السلام لها، وأنه هم أيضا بذبح ولده إسماعيل، في مكة كما هم بذبح ابنه إسحاق في القدس _ وهذا بالطبع هو اعتقاد اليهود والنصارى بناء على ما جاء في العهد القديم المحرف من أن إبراهيم عليه السلام، هم بذبح ابنه إسحاق في القدس بناء على أمر الله عز وجل الذي أراد أن يختبر إيمان إبراهيم عليه السلام، ثم سمح له أن يذبح كبشا بعد ذلك وهي تحريف لقصة إسماعيل عليه السلام _ و”أساطير فلوكلورية” أخرى عن حماية الكعبة من هجوم الفيلة في عام ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونبوءات عن حماية مكة المكرمة في المستقبل من هجمات المسيح الدجال “الذي يؤمن به النصارى أيضا”.
بل إن بعض الغربيين في أوائل القرن العشرين اعتقدوا أن المسلمين بتوجههم في كل صلاة إلى مكة المكرمة نابع من عبادتهم للكعبة المشرفة التي تمثل “بيت الله”، وقد أثر هذا الفكر بشكل واضح في الكثير من الموسوعات الغربية العامة التي كتبت عن مكة المكرمة، وبعضها لم يتم تصحيح هذه المعلومات فيها حتى يومنا هذا.
مكة في اللغة الإنجليزية
كما هي الأمور عادة في الغرب تؤثر الرؤية الأكاديمية على رؤية عموم الناس ذلك أن كل إعلامي أو كاتب أو باحث أو شخص عادي يريد معرفة شيئ عن مكة سيتجه للمكتبة للقراءة عنها وسيجد أمامه كتب الأكاديميين ورؤاهم.
إلا أنه بالرغم من كل التشويه الذي تعاني منه صورة مكة المكرمة الذهنية، فهي دائما تبقى في العقلية الغربية نموذجا غير عادي لـ”المدينة الفاضلة”، ولولا احتقار الغربيين للشعوب الشرقية واعتقادهم بأنها شعوب متخلفة عن ركب الحضارة الحديثة وأنها شعوب تحكمها التقاليد البالية وتأثير النفوذ الشخصي وليس القانون والعقل، وأيضا لولا بعض الحوادث السياسية التخريبية التي جاءت من مجموعات داخلية وخارجية أرادت استغلال مكة في تحقيق أهدافها الدنيئة وتغطية هذه الحوادث على نطاق واسع في الإعلام الغربي، لولا ذلك كله لكان لمكة المكرمة بما تحمله من صورة ساحرة وجميلة مكانا رائعا في الثقافة الغربية، ولكان هذا المكان الرائع خير أثر في التعريف بالإسلام والمسلمين وتحبيب الثفافة الإسلامية للعالم الغربي.
لكن “مكة” أبت إلا أن تأخذ طريقها في بلاد الغرب رغم تخاذل أهلها عن ذلك. فكلمة مكة mecca، تستخدم في اللغة الإنجليزية وفي مفردات الحياة اليومية الأمريكية بمعنى المقصد والغاية التي يتوجه لها عموم الناس، فيقال هذا الرجل هو “مكة” الشركات الباحثة عن الاستشارات في تخصص معين، ويقال هذا السوق هو “مكة” الراغبين في التسوق من نوع معين، ويقال لوس أنجلوس، هي مكة الصناعة السينمائية، كما أن سان فرانسيسكو، هي مكة شركات الإنترنت، مع العلم أن معظم الغربيين الذين يستعملون كلمة “مكة” في حياتهم اليومية لا يعرفون المعنى الأصلي لها.
ولذا تجد محلات كثيرة تحمل اسم “مكة” في الغرب كاسم تسويقي، بل إنه يوجد ملهى ليلي في بريطانيا باسم “مكة” على أساس أنه مقصد الشباب الراغبين في اللهو، أيضا يسمي بعض الأمريكيين بناتهم باسم مكة.
بل أكثر من ذلك، لقد جاء توم رادل، وهو كاتب إداري شهير في أمريكا، فألف كتابا في عام 1997 باسم “مكة كمؤثر: خمسة متطلبات للنجاح العملي والشخصي The Mecca Factor: Five imperatives for a successful life“، واخترع طريقة في إدارة الذات تدعى “مكة” مؤكدا أنه استنبط العنوان من اسم قبلة دين الإسلام والتي تتوجه إليها قلوب المسلمين من كل الأجناس كل يوم خمس مرات كـ”أكثر مكان على وجه الأرض يحقق لهم الأشباع الروحي” و”الإشباع النفسي والطمأنينة الداخلية وأنت تشق طريقك في رحلة الحياة”.
وتقوم طريقة مكة في إدارة الذات على أن يربط الإنسان كل أنشطته الذاتية وقراراته الحياتية بهدف معين يريده من الحياة يحدده مسبقا ويجعل كل أنشطة الحياة متجهة إليه كما تتجه قلوب المسلمين إلى مكة.
واخترع الكاتب مصطلحات إدارية جديدة مرتبطة باسم مكة مثل “معامل مكة” و”مصفوفة مكة” و”معادلة مكة” و”نظام مكة” و”فريق التمكين المكي” و”الشخصية المكية” و”عملية تأسيس المكية”، وغيرها.
لا أحد يعرف بالضبط كيف تسللت مكة إلى اللغة الإنجليزية وأخذت مكانها البارز هذا، لكن الغريب أن كلمة “مكة” تسللت أيضا للغة الهنود الحمر كاسم، فهو اسم لأحد أكبر قبائل الهنود الحمر التي تسكن الولايات الشمالية الغربية لأمريكا، واسم لما يزيد عن 75 مدينة وقرية في مختلف أنحاء أمريكا يعتقد أنها سميت بـ”مكة” على يد الهنود الحمر.
وإذا كان الأكاديمي جان لوهان، المتخصص في ثقافة الهنود الحمر، قد أخبرني بأنه لا يوجد معنى لهذه الكلمة في لغة الهنود الحمر، فإن بعض الباحثين مثل د. يوسف مروة، ود. فيل باري، الأستاذ في جامعة هارفارد الأمريكية، يعتقدون أن تسرب اسم “مكة” و”مدينة” و”عرفة” لأسماء مدن الهنود الحمر هو أحد الأدلة على أصولهم الإسلامية التي جاؤوا منها وعلى معرفة أجدادهم بالإسلام واشتياقهم للأراضي المقدسة.
وعموما فمكة في اللغة الإنجليزية أو في لغة الهنود الحمر لا علاقة لها مطلقا بمكة الموجودة في حي هارلم بنيويورك، ذلك أن مكة هناك قد أسست بالفعل لتحاكي مكة المكرمة على يد فرقة متطرفة من البلاليين _ أتباع أليجا محمد ولويس فرخان _ تسمى بـ”الفايف بيرسينتر”، أي الخمسة بالمائة، وهي فرقة تؤمن أن الله عز وجل وتعالى عن افتراء الظالمين، قد حل في السود، ولذا فإن كل رجل أسود هو إله، ولا يتورع هؤلاء عن أن يسمى نفسه بالله، وقد أسس هؤلاء بيتا صغيرا اسموه بمكة يجتمعون فيه ويحجون إليه أيضا، والغريب أن هذه الفرقة تجمع عددا كبيرا من المغنين والموسيقيين السود في أمريكا بمن فيهم الممثلة الأمريكية السوداء الشهيرة كوين لاتيفا، أو الملكة لطيفة، والتي مثلت لعدة سنوات في أحد المسلسلات الأمريكية باسم خديجة.
الحلم المفقود
لا شك أن مكة لو توفر لها الإعلام القوي الذي يقدمها ويزرعها في أفكار الغربيين بطريقة صحيحة لكان لها أثرها الساحر في أعماق الناس ولكانت خير جاذب للإسلام وناشر للثقافة الإسلامية بشكل إيجابي.
ولعل هذا ما جعلني في الماضي حين كتبت عن تحسين صورة الإسلام في الغرب أركز على إمكانية اختيار “مكة المكرمة” كمحور لحملتنا الإعلامية لتحسين صورة المسلمين في الغرب كما اختار اليهود الهولوكوست كمحور لتقديم انفسهم وقضاياهم للمجتمع الغربي.
يدل على ذلك أن الغربيين الذين أسلموا وبالتالي تمكنوا من فهم مكة المكرمة بشكل صحيح كانوا شديدي الارتباط بمكة المكرمة في فكرهم وكتاباتهم، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك محمد أسد، رحمه الله، ومراد هوفمان، واللذين كتبا كتابين عن الإسلام بعنوان “الرحلة إلى مكة” و”الطريق إلى مكة”.
التقيت بهوفمان، والذي كان سفيرا لألمانيا في المغرب واعتنق الإسلام وكتب بعض الروائع في الفهم الإسلامي المعاصر في مدينة ساينت لويس الأمريكية، في أثناء تأليفه لكتابه “الطريق إلى مكة”، وكان يتحدث بطريقة العاشق الولهان عن تلك المدينة التي أخذت بلبه وأعماقه ورأى في القدرة على زيارتها خير نعمة اكتسبها باعتناقه للإسلام.
نموذج آخر لهؤلاء هو مايكل وولف، والذي استمع إليه ملايين الأمريكيين في أول تغطية إعلامية أمريكية لشعيرة الحج في عام 1997، وذلك على أحد أكثر البرامج الإخبارية الأمريكية جمهورا والذي يديره الصحفي الأمريكي الشهير تيد كوبل، على شبكة “إي بي سي”، وقد استطاع مايكل، الذي كان قد اعتنق الإسلام قبل فترة بسيطة من زيارته لمكة وتغطيته لشعائر الحج، أن يدهش المسلمين وغير المسلمين بروايته الرائعة وتأملاته العميقة في الحج.
تلك الظاهرة التي تركته هائما مدهوشا ليستطيع بعد ذلك أن ينقل تلك المشاعر بمهارة غير مسبوقة للجماهير التي استمعت لمايكل وولف، حيا على الهواء من الأراضي المقدسة.
لقد بكي كثيرون من المسلمين الذين استمعوا لوولف، وخاصة منهم من لم يكتب له الحج بعد، ودخل الأمريكيين الإسلام وكانت تلك الساعة الإخبارية من أفضل ما بثه الإعلام الأمريكي على الإطلاق حول الإسلام إلى درجة أن المؤسسات الإسلامية في أمريكا تحرص حاليا على توزيع هذه الساعة الإخبارية على أشرطة فيديو على الأمريكيين الذين يرغبون التعرف على الإسلام.
البرنامج حقق من الشعبية ما دفع محطة “سي إن إن” في العام الذي يليه لإرسال فريق من المراسلين وعلى رأسهم ريز خان، لتغطية شعائر الحج على الهواء مباشرة.
لقد أبدع مايكل وولف، في تغطية شعائر الحج لأنه كان مسلما حديث العهد بالإسلام الذي عرفه الجمهور من أسئلة كوبل، التي وجهها من أمريكا لوولف، في مكة حول تجربته كمسلم جديد.
أيضا إسلام وولف، جعله يخالف طريقة الصحفيين الأمريكيين ليركز فقط على الإيجابيات العظيمة التي تحملها مناسك الحج وليتأمل الإنجازات الحضارية والعمرانية في المشاعر المقدسة وفي الحرمين الشريفين بعين إيجابية.
كل الصور التي نقلها وولف، كانت خالية من بعض الصور السلبية التي يقوم بها بعض جهلة المسلمين أثناء فريضة الحج.
ما لم يعرفه مشاهدو البرنامج في ذلك الحين أن مايكل وولف، شاعر ساعده إحساسه العميق على تقديم هذه اللحظات الرائعة، كما لم يعرفوا أن وولف، كان يهوديا قبل أن يكتب له الإسلام في قصة تروى لتميزها.
مايكل وولف، لم يقف إعجابه بالحج عند ذلك التقرير الإخباري فقد انطلق بعد ذلك ليؤلف كتابين عن الحج كتب لهما انتشار جيد، كما كتب عشرات المقالات الجميلة في هذا المجال.
الحج لدى مايكل وولف، كما تقول جريدة “سان خوزيه ميركوري” الأمريكية، هو “رحلة إلى القلب” و”أعظم شعائر الإسلام العامة”، أما مكة المكرمة فهي “المكان الذي يلتقي فيه الواجب بالحلم” والكعبة المشرفة “نقطة توجيه لجماهير المسلمين”.
ويضيف مايكل للجريدة، “أكثر من مليوني مسلم من 125 دولة يؤدون الحج كل عام ليجعلوه بذلك أضخم تجمع على وجه الأرض يتم في مكان واحد وفي وقت واحد لغرض واحد”.
في الحوار شبه مايكل الحج بـ”محيط بشري حقيقي” يتكون من ملايين الناس يتحدثون الكثيرمن اللغات واللهجات.
بالنسبة لشخص غربي، الرحلة الروحية المثالية تكون بمغادرة تعقيدات الحياة إلى الخلاء لتأمل الطبيعة وعظمة الخالق، لكن الحج بالعكس تماما يقدم لك دفعته الروحية بالرغم أنك تعيش في وسط زحام الناس.
مع ذلك فهناك تشابه ما مع هذا التصور الغربي حسب ما يقوله وولف لأنك بمجرد دخولك منطقة الحرم تغير ثيابك ويتعامل الجميع مع بعضهم باحترام شديد، كما أن أحدا لايحلق شعره أو يجرح حيوانا وغير ذلك من محرمات الحج.
في هذا الحوار كشأن معظم الحوارات الصحفية الأمريكية يسأل الصحفيون وولف عن منع غير المسلمين من دخول مكة المكرمة.
استمع لهذا الجواب؛ يقول وولف: “مكة يزورها فقط الناس الذين يريدون شعائر دينية معينة خاصة بالمسلمين، غير المسلمين ليس لهم أي شيء يفعلوه هناك، إن الشعور أن هناك مكان وحيد في العالم الإسلامي خاص بالمسلمين وليس لغيرهم شأن فيه شعور جذاب جدا، مكة أيضا هي محمية لقلب الإسلام، هناك نشأ الإسلام ومن هناك انتشر إلى العالم، الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أدرك أن هذا الامتداد سيصل إلى حافة معينة، ولا بد أن يبقى هناك مركز في الوسط يحافظ على نقاء الإسلام ويعود بالناس إلى جذورهم، الحج هو طريقة لدعوة الناس إلى نقطة مركزية”.
استمع أيضا لوولف، يتحدث عن الطواف بالكعبة المشرفة: “عندما ترى الكعبة لأول مرة تنظر إليها بعد أن تكون قد صليت باتجاهها لسنوات لتجدها رائعة جدا وجميلة جدا، الناس دائما يبكون عندما يرون الكعبة بالرغم من كونها مبنى مربع بسيط. عندما تؤدي الطواف تشعر بإحساس عظيم من السمو الروحي، ولكن في نفس الوقت تحس بالتجمع والتكامل مع الآخرين وهذا يجعلك تسمو روحيا دون أن تشطح عن حدودك الجسدية واتزانك الطبيعي”.
كتاب مايكل وولف، الأول اسمه “الحج: رحلة حاج أمريكي إلى مكة”، في هذا الكتاب حكى وولف، تأملات ذلك الحاج القادم من أمريكا والمسلم الجديد الذي وجد الدين الحق بعد بحث طويل.
إنها “رحلة إلى القلب” ولذلك لأنها “رحلة تعطي الفرصة للحاج ليستعيد شيئا من المساحة النقية في حياته.
هذا كشيء مركزي في هذه الفريضة هو أمر ثمين جدا لأننا جميعا نضيع في هذا العالم، وكلنا ننغمس في عالمنا المادي الاجتماعي وننشغل في حياتنا الأسرية والعملية.
بالنسبة للمسلمين يمكنك أن تترك ذلك ورائك وتؤدي الحج لتعود إلى ما أنت عليه حقيقة، إنها رحلة إلى مكة لكنها في نفس الوقت عودة إلى الأصل والجذور ولبداية الحياة”.
أما الكتاب الثاني لوولف، فاسمه “ألف طريق إلى مكة: عشرة قرون من كتابات المسافرين عن الحجاج المسلمين”.
في هذا الكتاب يصف وولف، الخطر الكبير الذي كان عبر القرون يواجه الراحلين إلى مكة بدءا من الموت إلى المرض والحر وقطاع الطرق.
هذا ما يجعل رحلة الحج حسب تعبير وولف، رحلة إلى القلب لأن الحاج فيها ينطلق من أعماق إيمانه بالله عز وجل ليخوض كل هذه المخاطرات من أجل تأدية هذه الشعيرة.
أقرب قصص الكتاب إلى المؤلف هي قصة مالكولم إكس، الزعيم الأمريكي الأسود الذي جاء إلى مكة وهو يؤمن بما تؤمن به جماعة “أمة الإسلام” حاليا، أن الإسلام دين للسود فقط، وأن الله سبحانه وتعالى عن البهت والتحريف قد حل في جسد رجل أسود وأن النبي رجل أسود، وأن الملائكة من السود بينما البيض يمثلون الشياطين.
مالكولم، حسب مايرويه وولف، جاء إلى الحج بعد أن قتل البيض العنصريون والده، وعاش عمره ينظم مسيرات السود الكارهة للبيض في أمريكا.
جاء لمكة ليجد كل الناس يلبسون نفس اللباس ويصلون نفس الصلاة.
في الحج تمكن مالكولم، من الحديث مع كل الناس والأكل مع الناس كلهم مهما كان لونهم وأصلهم.
مالكولم إكس، جلس في مكة أياما محدودة ولكنه عشق أيامه تلك، وكانت التجربة التي قلبته رأسا على عقب وجعلته يعود مطالبا المسلمين السود بالعودة لأصول الدين الصحيحة، ومؤسسا التيار السني وسط الأمريكيين السود الأمر الذي كلفه في النهاية حياته.
أحد المقالات العديدة التي كتبها مايكل وولف، كانت بعنوان “مكة الحقيقية” _ نشرت في مجلة الخطوط الأمريكية يو إس إيرلاينز _ والتي يصف فيها مكة وشوارعها وأهلها وزوارها القادمين من كل أنحاء العالم، مازجا التاريخ بالحاضر وبأسلوب عاشق لتلك المدينة التي تركت آثارها في أعماق نفسه.
مايكل وولف، يصف أيضا الكعبة المشرفة والحرم النبوي الشريف ويركز على الجهود التي قامت بها الحكومة السعودية لتحويل الحرمين المكي والمدني إلى تحف معمارية غير مسبوقة.
يمكن للمسلمين أن يوجدوا الكثير من الأمثلة التي تشابه مايكل وولف، ويمكنهم أيضا أن ينقلوا هذه الصورة الساحرة للغربيين ويكسبوا من خلالها الكثير، ولعل من الطرق التي تؤدي لذلك ما يلي:
- الاهتمام بالتأثير في المجتمع الأكاديمي الغربي من خلال تأليف وترجمة الكتب الإسلامية التي تحتوي على معلومات دقيقة مصاغة باتباع أساليب البحث العلمي العالمية وبلغة إنجليزية جذابة وعلمية.
- تأسيس حملات إعلامية مدروسة تشرف عليها مؤسسات علاقات عامة كبرى في أمريكا والدول الغربية الأخرى تدور حول الإسلام والثقافة الإسلامية والعربية وحول المملكة العربية السعودية متخذة الحج كمحور مركزي لهذه الحملة الإعلامية.
- تأسيس موقع على الإنترنت مكتوب بعدة لغات وفيه عدة كاميرات حية من عدة مواقع داخل الحرم المكي الشريف وخارجه مع عرض مميز وجذاب لتاريخ مكة والحياة الاجتماعية فيها حاليا مع الالتزام بالدقة والواقعية.
- الاهتمام بإعداد أفلام وثائقية على مستوى عال من الحرفية والجودة تعرض لمكة المكرمة بالتفصيل في موسم الحج وفي غيره على أن تعد بعدة لغات وتعد بحيث يفهمهما الجمهور العام وليس المسلمين فقط.
- إهداء مجسمات للحرم المكي الشريف ولمختلف مناطق مكة ومجسمات لمكة المكرمة كلها لمختلف المتاحف والمؤسسات الأكاديمية والتعليمية في الدول الغربية.
وغير هذا من الطرق، المهم أن نحدد الهدف أو العامل المكي كما يقول توم رادل، ثم يكون الانطلاق المخطط والمدروس والبقية تأتي بتوفيق الله عز وجل، ولعلنا يوما نحلم بعشرات من الناس مثل أسد النمساوي، وهوفمان الألماني، وولف الأمريكي.
* نُشر في مجلة المعرفة السعودية