عندما واجهت النمور الأسيوية السبع انهيارات اقتصادية متوالية في أواخر التسعينات الميلادية كان هناك أمر ملفت للنظر وهو أن “النمر” الوحيد الذي ظل صامدا في هذه العواصف _ ومازال _ هو أصغر النمور من ناحية المساحة الجغرافية: سنغافورة.
قصة سنغافورة غريبة من نوعها وتستحق التأمل، لأن سنغافورة هي مجرد جزيرة صغيرة تقطعها من أقصاها إلى أقصاها بالمترو في حدود 45 دقيقة، وهي تقريبا خالية من كل الموارد الطبيعية الثمينة، وكانت تعتبر دولة متخلفة قبل عقود قليلة جدا من الزمن ولم تبدأ مسيرتها التنموية بشكل جاد إلا في بداية السبعينات الميلادية.
الآن تعتبر سنغافورة في قائمة أكثر عشر دول في العالم من ناحية الاستقرار الاقتصادي ومن ناحية معدلات النمو، وهي محطة سياحية لملايين السياح كل عام، كما أنها محطة تجارية لا يستغني عنها كل من يفكر في شرق آسيا.
بالنسبة لنا كعرب نملك المساحات الجغرافية والموارد الطبيعية، تبدو تجربة كسنغافورة معجزة نقف أمامها باحترام رغم اختلافنا مع بعض محاور التجربة عموما.
قبل عدة أعوام قمت بزيارة ماليزيا زيارة صحفية، وكنت لما أتحدث مع الشخصيات الإسلامية عن التجربة الماليزية تجدهم دائما يشيرون بخوف لسنغافورة كعدو محتمل قد يستخدمه الغرب لإجهاض التجربة الماليزية، وبعيدا عن تقييم حس “المؤامرة” المنتشر في العالم الإسلامي، فإن هذا أيضا يشير للتقدم العسكري الذي حققته سنغافورة من ناحية جيشها البحري لتصبح في النهاية بأسطولها العسكري المتفوق على مستوى شرق آسيا مخيفة لدولة مثل ماليزيا، إنه مثل يشبه تماما قصة الفيل الذي يخاف من الفأر، من ناحية المساحة.
بعد ذلك زرت سنغافورة، وكانت مفاجأة، لأن سنغافورة التي لا تقل عن الغرب المتقدم في تطور مؤسساتها الخدمية وأنظمتها المدنية العامة تملك أيضا اقتصادا غير عادي يتمثل في مئات المباني الطويلة المتراصة في وسط المدينة، وفي كل من هذه المباني تجد مئات الشركات الممثلة كل منها بمكتب فيه عدة موظفين يديرون مئات الملايين من الدولارات السنغافورية.
ما كان يفعله السنغافوريون ببساطة هو استيراد البضائع من الدول الآسيوية التي تصنع ولا تحسن التسويق، ثم إعادة تصديرها من الميناء نفسه بدون أن تدخل سنغافورة إلى مختلف دول العالم تحت اسم سنغافورة.
لما جاءت موجة التكنولوجيا والكمبيوتر الشخصي، قام السنغافوريون بالترتيب مع عشرات الشركات اليابانية والصينية وغيرها وصاروا مركزا أساسيا لتصدير التقنية في قارة آسيا.
لكن هذا ليس هو الإنجاز السنغافوري الوحيد، الإنجاز الحقيقي الذي حققته سنغافورة في رأيي الشخصي هو تطوير نظام تعليمي يعتبر أحد أرقى الأنظمة في العالم بلا نزاع.
لقد فهمت سنغافورة _ والتي تعني بالعربية جزيرة الأسد _ أنها لا تملك أي مقومات نمو طبيعية، فهي دولة في مدينة واحدة مع جزر صغيرة جدا من جوانبها، وهي لا تملك الموارد الطبيعية، وتوازنات المنطقة السياسية لا تسمح لها بالبروز، كما أنها لا تملك إطارا أيديولوجيا تغزو وتؤثر في العالم من خلاله، ولأن الطموح لم يتكسر على جدران المحدودية، فقد قررت سنغافورة أن تركز على الرصيد الوحيد الذي تملكه والذي حولته بعد زمن لورقة رابحة لا تخسر أبدا، اختارت أن تركز على “الإنسان”.
ولذا فنظام التعليم في سنغافورة لا يقف عند صفوف الدراسة التي تبدأ من الابتدائية وتنتهي في الثانوية بالرغم أن الطلاب السنغافوريين يتفوقون دائما في المعدلات العالمية في مواد الرياضيات واللغة والعلوم، كما لم يقتصر على الصفوف الجامعية بالرغم أن جامعات سنغافورة _ جامعة نانيانج التكنولوجية وجامعة سنغافورة الوطنية، وجامعة سنغافورة للإدارة _ تأتي عموما في الدرجة الثانية بعد الجامعات اليابانية في آسيا، بل تجاوز ذلك إلى مراحل بعد الجامعة حيث تنفق الحكومة السنغافورية مئات ملايين الدولارات كل عام على تدريب الكبار على مختلف المهارات الإدارية والحياتية والوظيفية وعلى إعادة تدريب المتخصصين في مجال تخصصاتهم.
قبل أربع سنوات التقيت في أمريكا بالدكتور آرثر فان جاندي Arthur VanGundy، والذي يلقب هناك بـ”الأب الروحي للإبداع” Godfather of Creativity، والذي كان له الفضل في تأسيس منهج “العصف الذهني الجماعي” في السبعينات الميلادية.
لقد أخبرني د. فان جاندي، حينها، أن الحكومة السنغافورية وقعت عقدا معه مدته عشر سنوات يذهب بمقتضاه فترة محددة كل عام إلى سنغافورة لتدريب الموظفين في القطاعين العام والخاص على الأساليب الإبداعية لحل المشكلات، وهو يعتقد أنه بنهاية هذه الفترة سيكون قد درب كل شخص في سنغافورة كيف يحل مشكلات العمل بشكل إبداعي.
هذا مجرد مثال بسيط على ما تبذله الحكومة السنغافورية بشكل مكثف لتطوير الإنسان هناك، وهو السر الذي استطاعت بفضله أن تتحول من دولة نامية فيها مجموعة من السكان المالاويين والمهاجرين الصينيين والهنود وغيرهم إلى دولة ذات أنظمة مدنية متقدمة على كل المستويات خلال فترة قصيرة نسبيا من الزمن.
قصة سنغافورة
وضع النقاط على الحروف في فهم التجربة السنغافورية لا يكتمل بدون تسليط الأضواء على الشخصية التي لعبت دورا أساسيا في هذا الإنجاز وهي شخصية رئيس وزراء سنغافورة سابقا، لي كوان يو Lee Kuan Yuw.
يعتبر لي كوان يو، بلا منازع القائد التاريخي الذي حول سنغافورة من جزيرة للبيع والشراء إلى دولة متقدمة اقتصاديا استطاعت في أواخر التسعينات الميلادية أن تحقق المركز الرابع على مستوى العالم من حيث ارتفاع دخل الفرد.
مازال “يو” حيا، رغم تقاعده عن العمل السياسي في 1990، ولكنه بقي الرجل الذي ينظر إليه السنغافوريون بإجلال حتى هذه اللحظة، وما زالت القصص البطولية تنسج عنه حتى يومنا هذا، ومازال الطلبة في المدارس يقسمون كل صباح أن يحافظوا على سنغافورة التي بناها، لي كوان يو.
يو، كتب مذكراته وشرح للعالم الكثير من الأسرار عن حكايته مع سنغافورة، وذلك في كتابه واسع الانتشار، “قصة سنغافورة” Singapore Story.
في هذا الكتاب بجزئيه الأول والثاني، سرد مكتوب بلغة مميزة للأساليب التي اتبعها لي كوان يو، للتخلص من الاستعمار البريطاني والانفصال عن الدولة الأم ماليزيا وبناء الدولة المستقلة سنغافورة.
أيضا يتناول الكتاب قصة نجاح رجل انتقل من مجرد طفل يبيع الصمغ المصنع في البيوت، إلى طالب حقوق في جامعة كامبردج البريطانية الشهيرة في أوائل الخمسينات، إلى رجل سياسة دخل دهاليزها وتحالف مع الجميع ضد الجميع مستخدما كل أسلوب شرعي وغير شرعي ليحقق هدفه وهو بناء سنغافورة المستقلة.
في الجزء الثاني من الكتاب “760 صفحة”، والذي عنونه لي يو، بـ”من العالم الثالث للأول: قصة سنغافورة 1965-2000″، يحكي مؤسس سنغافورة قصة تشبه الخيال عن بناء سنغافورة ونظمها المدنية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، والأهم من ذلك نظامها التعليمي المتميز.
في 35 سنة _ لا تزيد أبدا عن سنوات المسيرة التنموية لمعظم دول العالم الثالث بما فيها الدول الإسلامية والعربية _ انتقلت سنغافورة كما يقول مؤلفها من دولة بدائية متخلفة لا يضعها معظم الجغرافيون على خريطة العالم إلى دولة لا تقل عن دول العالم الأول في شيء أيا كان، حسب ما حاول إثباته في الكتاب.
بدأت القصة بعدما استطاع لي كوان يو أن يضمن هو ورجاله بكفاح طويل أن يتخلص من خطر الشيوعية الذي غزا العالم من مركزه الثاني الصين والذي أصاب المنطقة بما فيها جارتهم الكبرى أندونيسيا، في عهد الرئيس سوكارنو، ثم جلسوا على طاولة واحدة ليقرروا خطوتهم القادمة.
وبالفعل توالت الخطوات من بناء جيش قوي لحماية “الدولة / المدينة”، القضاء على الفساد الإداري الداخلي بقوانين شديدة القسوة، بناء مساكن جيدة لكل السكان، بناء مطار دولي وخطوط طيران تعتبر واحدة من الأفضل في العالم حاليا، بناء النظام التعليمي، بناء شبكة طرق، بناء نظام سياسي ديمقراطي، تأسيس معالم سياحية للدولة، بناء نظام اقتصادي متطور جعل سنغافورة واحدا من أهم المراكز البنكية في العالم، بناء نظام صحي مميز عالميا، العمل الجاد على حل المشكلات الاجتماعية في الدولة ونشر ثقافة الزواج “المتكافئ” بين الشباب السنغافوريين، ومنع أي مظاهر منافية للأخلاق في الشارع “الأمر الذي طالما انتقده الغربيون لفعله وخاصة عندما كان السياح الغربيون يتلقون مثل هذه العقوبات”، ووضع عقوبات صارمة على كل من يخل بأنظمة سنغافورة بدءا بالأمن القومي وانتهاء بنظافة الشارع والتدخين “عقوبة التدخين في مكان عام في سنغافورة تبدأ بـ 500 دولار سنغافوري”.
لم يكتف لي بذلك بل بعمل بجد على صناعة مكان لسنغافورة على خريطة السياسة الدولية فعمل على أن تكون دولته مركزا استراتيجيا في العلاقات الغربية، وخاصة فيما يتعلق ببريطانيا وأمريكا، وشرق آسيا بما فيها الصين وروسيا والكوريتين.
وتدخل هو شخصيا في الكثير من الشؤون السياسية الداخلية في منطقته بما فيها أندونيسيا وماليزيا وغيرها.
أيضا قيم لي يو، تجربة العالم النامي الذي ينتقده بحدة لأنه يستمع في نظرياته التنموية لما تقوله الدول الغنية في العالم والتي تتعارض مصالحها مع استخدام أنظمة عملية للتقدم، ولذا فهي تحاول تسويق أنظمة نظرية للتقدم تقنع زعماء العالم النامي وتخفي خلفها التحقيق غير المباشر لمصالح الدول الغنية حسب رأي، لي يو.
كما انتقد كذلك حرص العالم النامي على المركزية في إدارة اقتصاد الدولة والذي تأثرت كثير من دولة في ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر في الستينات الميلادية بتجربة الاتحاد السوفييتي وهو الأمر الذي أدى لفشل تلك التجارب جميعها.
مسلمو سنغافورة
من المؤلم في قصة سنغافورة أن تعرف أنها انفصلت عن دولة إسلامية، ماليزيا، ليصبح المسلمون فيها خلال سنوات قليلة أقلية صغيرة لا يزيد تعدادها عن 18% من السكان، تشمل ذوي الأصول الماليزية، وذوي الأصول الحضرمية.
وإذا كان السنغافوريون المسلمون يروون بأنهم قد عانوا في أوائل الستينات الميلادية من الضغط السياسي لمنعهم من الوصول إلى المراكز الحساسة في الحكم رغم كونهم السكان الأصليين للجزيرة، وإذا كانوا كذلك يذكرون بألم أبواب الهجرة الواسعة التي فتحت للصينيين ليهاجروا لسنغافورة في أول استقلالها حتى بدأت نسبتهم تقل شيئا فشيئا ليصيروا مجرد أقلية ضعيفة، فإن المسلمين هناك استفادوا من النهضة السنغفاورية العامة وخاصة مع امتلاكهم لحرية الحركة التي ضمنها لهم الدستور الديمقراطي السنغافوري.
اطلعت خلال عملي الصحفي على أحوال الكثير من الأقليات الإسلامية حول العالم لكن أمرا ما لفت نظري خصوصا في التجربة الإسلامية السنفافورية، والتي يجعلها “أقلية مؤسسات”.
في سنغافورة التي يوجد فيها مئات الآلاف من المسلمين فقط أكثر من 100 مؤسسة إسلامية، متنوعة التخصصات والاهتمامات. يجمع بين هذه المؤسسات أنها لا تنظر إلى بعضها كمؤسسات متنافسة، كما هو الحال في معظم أنحاء العالم الإسلامي، بل كمؤسسات متكاملة، وكان تحقيق ذلك في غاية السهولة وذلك لأن كل واحدة من هذه المؤسسات ركزت على تخصص معين، فواحدة لدعوة غير المسلمين، وواحدة لدعوة السياح، وأخرى لتعليم المسلمين، ومؤسسة للبعثات الدراسية لأبناء المسلمين، وجمعية لرعاية الأيتام، واتحاد ثقافي للطلاب المسلمين وهكذا.
كما استطاعت هذه المؤسسات أن تضمن درجة عالية من التعاون فيما بينها بطريقتين:
- الأولى: من خلال تأسيس عدد من مجالس التنسيق.
- والثانية: من خلال تبادل أعضاء مجالس الإدارات فتجد مدير إحدى المؤسسات عضوا في مجلس إدارة عدة مؤسسات أخرى وعضوا في مجلس أمناء عدة مؤسسات إسلامية ثانية وهكذا.
أيضا؛ ما يمكنك ببساطة ملاحظته على المؤسسات الإسلامية في سنغافورة استفادتها من أنظمة الشركات عموما في إدارة هذه المؤسسات، فلكل مؤسسة مجلس إدارة يراجع ميزانيتها وطرق الإنفاق ويضع أهدافا لهذه المؤسسة ويضع الخطط لتنفيذها، ورغم أن المؤسسات الإسلامية في مختلف أنحاء الأرض تدعي أنها تفعل الشيء نفسه، ولكن تحقيق هذا ضعيف في كثير من الحالات.
دائما تشكو الجاليات الإسلامية من الضعف والمشكلات والنقص المادي وسيطرة المنتفعين عليها، وترى مخالفة هذه القاعدة جميلا ومتميزا في النموذج السنغافوري الذي لا أعرف له منافسا سوى نموذج الجالية الإسلامية في جزر موريشيوس، في شرق أفريقيا، والمعروف بتميزه غير العادي أيضا، ولكن هذا له حديث آخر.
* نُشر في مجلة المعرفة السعودية