كان المضي في شوارع العاصمة الماليزية كوالالمبور يشعرك أنك تتمشى في أزقة المدينة الأفلاطونية، حيث الجميع يمارس الحلم بلا حدود.
زرت ماليزيا للمرة الأولى في عام 1994، والتقيت فيها _ كصحفي _ بعدد كبير من السياسيين والمفكرين وحتى الأشخاص العاديين وكان الجميع بلا استثناء يتحدث عن الكلمة الساحرة، 2020.
2020، هو العام الذي وضعه الرئيس الماليزي، مهاتير محمد، كخط نهاية ينتهي عنده السباق الماليزي مع الزمن، وتعلن فيه ماليزيا تحقيقها للمجتمع المثالي الذي أراده مهاتير، ونجحت اللعبة.
مهاتير، رسم للمجتمع الماليزي أفقا صار الجميع يسعى نحوه ويتحدث عنه، وصار في حد ذاته الوسواس المراهق للماليزيين.
لا يمكنك أن تحضر محاضرة أو تتحدث مع شخصية ما أو تسمع خطابا رسميا أو حتى تقرأ تقديما لأي عمل ذي صبغة ماليزية إلا وسمعت الحديث عن حلم 2020.
جمال 2020 لا يتوقف فقط على أنها وضعت الخط النهائي للسباق في عام قريب يظن كثير من الناس أنه سيعيشه، وليس فقط لأن ماليزيا كانت تعمل كالآلة الجبارة بلا توقف حتى تحافظ على أعلى نسبة نمو اقتصادي في العالم، والتي تجاوزت لأكثر من خمس سنوات متتالية 8%، الأمر الذي كان يشعر الجميع أن الحلم سيتحقق بلا محالة، بل أن حلم 2020 يلعب أيضا على ثلاثة معاني رمزية يكفي أن تذكرها لتقدح الحلم عند الإنسان وتجعله يحس بالنشوة وهو يعمل في اتجاه هذا الحلم الوطني: الاقتصاد الصناعي، والديمقراطية، والإسلام.
بالرغم أن المعاني هذه ستشعرك أن فيها شيئ من التناقض لكنها في الحقيقة تم رصها مع بعضها في «مثلث ذهبي» قاد ماليزيا لأكثر من عشر سنوات متتالية.
لاحظ أن الاقتصاد الصناعي والديمقراطية قادا ماليزيا بكل فئاتها المسلمة وغير المسلمة وجعلها تقف على حافة العالمية وتعطيها القيادة في آسيا.
تتكون ماليزيا من خليط صعب من السكان، هناك 55% من السكان مسلمون، و30% صينيون أكثرهم بوذيون وبعضهم مسيحيون، و15% هنود معظمهم من الهندوس.
هذا الخليط المتناقض من السكان لم يكن ليمضي بتناسق لولا الحلم الاقتصادي وممارسة الديمقراطية التي أعطت الجميع الفرصة للحديث الحر وتحدي السياسة خطابيا والدخول في بعض الأحزاب السياسية وإن بقيت السيطرة للأغلبية المسلمة كما هو معروف.
لكن مهاتير، لم يكتف بالحصول على السيطرة للمسلمين في ماليزيا، بل هو سعى جديا لجعل ماليزيا دولة إسلامية إلى حد معين، وبالفعل تأسست العديد من المؤسسات الإسلامية العملاقة في ماليزيا التي قلما يكون لها مثيل في العالم الإسلامي، وعملت ماليزيا جديا على تطوير ممارسات الاقتصاد الإسلامي، وبدأ الماليزيون يرون الحلم الإسلامي ينمو مع وصول أنور ابراهيم _ وهو المفكر الإسلامي العريق الذي سجن من قبل بسبب أفكاره الإسلامية _ لمنصب نائب رئيس الوزراء، وعمل أنور ابراهيم، بجدية على أسلمة المؤسسات الحكومية الماليزية.
على المستوى العام ركز مهاتير محمد، على مفهوم جميل، وهو أن الثورة الصناعية جاءت معها بكوارث اجتماعية على الغرب، وأن هذا لا يجب أن يتكرر في ماليزيا، ولذا، ركزت ماليزيا على مستويات عديدة على «نشر الأخلاق والفضيلة»، وصار منع الإباحية في ماليزيا مثلا ليس لأن نصف السكان من المسلمين يهمهم ذلك، بل لأن ذلك ضمان للحفاظ على المجتمع من التدهور الأخلاقي الذي غزا الغرب.
هذا المفهوم الذي لم يقدم بهذه الصورة في أي مكان آخر من العالم يتكرر كل يوم في مختلف وسائل الإعلام بشكل أقنع الكثير من الماليزيين غير المسلمين بصحته وأهميته وصاروا هم أنفسهم جنودا للدفاع عن الأخلاق والفضيلة.
كل ماليزيا كانت تعشق مهاتير، وتتحدث عن مهاتير.
قلما تذهب لدولة إسلامية إلا وتسمع التذمر والتشكي، إلا في ماليزيا، سواء تحدثت مع المسلم أو غير المسلم، أو مع الغني أو الفقير، أو الأكاديمي وسائق التاكسي، الكل يعشق مهاتير، ويمضي حالما بعام 2020.
لكن فجأة حصل ما أطفأ الأنوار وأيقظ الناس من الحلم ليصيبهم بالإحباط الشديد لما حصل ما بدأ وكأنه تكسر لأضلاع المثلث الذهبي.
في عام 1998، حصلت الأزمة الاقتصادية الحادة التي مرت بها تايلند وماليزيا وبقية دول آسيا عموما، وتركت هذه الأزمة آثارها النفسية الحادة على مهاتير، والشعب الماليزي، وجعلت ماليزيا تغرق لبعض الوقت في الشعور بأنها كانت ضحية لمؤامرة خارجية _ صح ذلك أو لم يصح ليس هذا محل نقاشه _ وجعلت مهاتير، يقرر شخصيا اتخاذ اجراءات عديدة اقتصادية وسياسية يعتقد على المستوى الاقتصادي الدولي أنه كان لها دور سئ بالعودة بماليزيا خطوات ضخمة للوراء على مستوى النمو الاقتصادي.
نسي مهاتير، أن ماليزيا ارتكبت الكثير من الأخطاء التي سببت هذه الأزمة، نسي مثلا أن ماليزيا تورطت في عدد من المشاريع العملاقة التي تعتبر الأكبر من العالم دون أن يكون هناك حاجة ضرورية لها ودون أن يكون هناك الغطاء الاقتصادي الكافي لها.
في أمريكا توجد ثلاثة من أطول العمارات في العالم، لكن الشركة التي تريد أن تستأجر مكتبا صغيرا جدا في أحد هذه المباني تحتاج لفترة انتظار لا تقل عن خمس سنوات بسبب الضغط السكاني في المنطقة، كما أن هذه العمارات بنيت على حساب القطاع الخاص الذي رأى فيها مشروعا استثماريا ضخما.
ماليزيا بنت أطول عمارة في العالم من ميزانية الحكومة وما زالت معظم أدوارها غير مسكونة على الإطلاق.
في أمريكا توجد مدينة «السيليكون فالي» التي تجمع شركات الإنترنت وتوجد أفضل الشبكات الألكترونية، لكن الحكومة لم تبني هذه المدينة، بل كان القطاع الخاص الذي فعل ذلك وجاء عبر سنوات عديدة وتطورت عبر السنوات بفعل عوامل العرض والطلب.
ماليزيا بنت مشروعا مماثلا بأموال الحكومة، وفشل المشروع حتى الآن على الأقل.
أيضا نسيت ماليزيا أن معدل النمو كان سريعا جدا، بحيث كانت شركات تظهر بأعداد رهيبة بناء على ديون سهلة من البنوك دون أن يكون لها أساس قوي، ولذا فبمجرد أن أعلن ملاك الأسهم يوما خوفهم من الأسهم الماليزية انهار الاقتصاد الماليزي في يوم وليلة.
إذا أردت أن تقود سيارتك بسرعة فأنت معرض للحوادث بنسبة أعلى بكثير من الآخرين مهما كانت مهارتك، وهذا ما يجعل أمريكا تفرض كل فترة وأخرى “خمس مرات في عامي 1999 و2000” إجراءات لتبطيئ النمو الاقتصادي وحتى الإنتاج القومي خوفا من عواقب السرعة.
الماليزيون لم يستعوبوا هذا الدرس في حينها.
المقارنة بين أمريكا وماليزيا لا تهدف للتقليل من شأن ماليزيا، بل للتأكيد أنه حتى أمريكا التي حصل لها من عوامل النجاح الاقتصادي ما لم يحصل لدولة في التاريخ تتعرض للهزات الاقتصادية العنيفة كل عقد من الزمن، ولم يكن هذا معناه يوما إيقاف المشاريع الاقتصادية وتغيير القوانين والشعور بالانهيار لأن كل اقتصاد له دورة طبيعية على شكل حدوة الحصان تتكرر على عدد من السنوات “معدلها العالمي 8 سنوات”.
حتى اليابان والتي تملك ثاني اقتصاد في العالم وتعتبر معجزة تشبه الخيال بحكم أن ذلك جاء من بلد ليس فيها أي عوامل طبيعية للنجاح سوى القدرات السكانية، انهارت اقتصاديا في العام نفسه، وبعد أشهر من انهيار اقتصاد ماليزيا ثم عادت للنمو من جديد وبالمعدلات السابقة نفسها.
ما حصل لماليزيا كان إذن طبيعيا جدا، لكنه كان يعني للماليزيين الاستيقاظ من الحلم والإحباط النفسي العام، وشمل هذا بالدرجة الأولى صانع الحلم مهاتير محمد، الذي رأي في القضية مؤامرة وبدأ يتخذ قرارات كثيرة رأي فيها الكثير من الخبراء الاقتصاديين خطأ خطيرا سيسبب مشكلات اقتصادية طويلة المدى لماليزيا.
أنور إبراهيم، من جهته _ وهو الشخص الذي تعود على مقاومة النكسات _استطاع أن يرى المشكلة وبدأ يدخل في خلاف يومي متكرر مع مهاتير محمد، حسب ما أفادني بذلك أحد أقرب الناس لأنور إبراهيم.
استغلت مجموعة من المسؤولين الماليزين الفرصة وخاصة أنهم كانوا معروفين بعداوتهم الحادة لإبراهيم، والذي يبدو أن دافعها هو الحسد، لأن أولئك كانوا في مناصب قريبة من مهاتير، وجاء أنور إبراهيم، ليضع فيها القريبين منه ويتحرك بديناميكيته وذكاءه المعروف ليضعهم جميعا في الظل.
كان استغلال الفرصة بنصب الفخ الذي خلق العداوة المشهورة بين الرئيس مهاتير محمد، وأنور إبراهيم، وذلك بإشعار مهاتير، أن أنور إبراهيم، عميل للغرب، ثم ظهرت على شكل مجموعة من المهازل في المحاكم والشوارع الماليزية، وجاء حس المؤامرة مرة أخرى لينمو هذه المرة عند القطاع المتدين والمثقف من الشعب الماليزي، والذي قرر الوقوف مع أنور إبراهيم، ضد مهاتير، وبدأت يتكسر ضلع آخر في المثلث الذهبي حين توقف الكثير من الماليزيين عن النظر لمهاتير، كزعيم إسلامي.
هؤلاء في المقابل تعرضوا للكثير من القمع حين رآهم مهاتير، خطرا على استقرار ماليزيا، وبدأ مهاتير، يلاحق كل أولئك الذين كان أنور إبراهيم، سببا في وصولهم لمناصبهم، وصار هؤلاء بالمقابل يشيعون عن مهاتير، أنه رجل متغلغل في الفساد الإداري والاستفادة الخاصة من أموال الناس، وهنا صار الضلع الديمقراطي يتضعضع.
وبدأ الحلم الماليزي يتلاشى شيئا فشيئا..
لكن الحقيقة تبقى أن ماليزيا قطعت الكثير من الخطوات وتعتبر أحد أكثر دول العالم الإسلامي تقدما، ومازالت سياسيا مستقرة إلى حد كبير، ومازالت تملك اقتصادا مميزا، ولازال للإسلام في ماليزيا دوره الريادي.
كل الأمل هو أن ما حصل لماليزيا هو واحد من الدورات الحضارية الطبيعية التي _ كحدوة الحصان _ تعلو بالدول والحضارات وتهبط، وأن ماليزيا ستعود مرة أخرى للركض وراء الحلم، الركض الذي تعلم من التجربة الأولى الكثير وصار لا يركض وراء الحلم رافعا رأسه نحو السماء دون أن ينتبه لعشرات الحفر والتماسيح على الأرض.
* نُشر في مجلة المعرفة السعودية