استطاعت موجات «ما بعد الحداثة» أن تغزو الأوساط الفكرية والأدبية في أمريكا بقوة منذ مطلع التسعينات الميلادية، وتمددت فيما بعد لتصل لمناهج البحث العلمي في مختلف العلوم الإنسانية والفنون التشكيلية والمسرحية وغيرها، إلا أن أحدا لم ينتظر أن تصل الموجة للأفلام السينمائية.
هل من معقول أن يجلس جمهور ما لفترة ساعة أو تزيد أمام فيلم ليس له بداية ولا نهاية يتعامل مع كل المتناقضات اللامعقولة في مواقف في غاية الغرابة، ليصل بعد ذلك إلى ما ينتظره أدب ما بعد الحداثة من متذوقه من الغوص في أعماق المعنى والرحيل عبر الأبعاد اللامنتهية للفيلم والتي يفترض أن تزيد مع كل مرة إضافية تشاهد فيها النص مابعد الحداثي أو تتعرض له؟
إذا كان هذا معقولا لأي أحد فهل من المعقول أن تستطيع هذه الأفلام أن تجتذب جمهورا وسط المنافسة الطاغية في أمريكا بين الأفلام السينمائية في دولة السينما والإنتاج الدرامي والكوميدي المتقن في العالم؟
لكن الفنان ماثيو بارني، الذي لا يزيد عمره عن 32 عاما، حقق غير المعقول عندما استطاع إنتاج عدد من الأفلام السينمائية التي فرضت نفسها على جمهور مثقف يتذوق التمثيل الهستيري المجنون في هذه الأفلام.
الأفلام جزء منها فنون استعراضية، وجزء تقوم به تماثيل منحوتة، وجزء آخر درامي لممثلين يثقلهم الماكياج والأزياء الغريبة التي يفترض أن تكون مرتبطة بأبعاد المعنى العميق للفيلم.
بارني، الذي يخرج أفلامه ويمثل أدوار البطولة فيها ويشرف على تصميم التماثيل والرسوم التشكيلية فيها، خرج أمام الكاميرا على شكل خروف ذي شعر أحمر يلبس معطف الصباح، أو على شكل «الساطير» والذي يمثل في الأدب الإغريقي مخلوقا أسطوريا له ذيل وأذنا فرس وكان يتميز بولوعه الشديد بالقصف المعربد وانغماسه في الملذات، «الساطير» ظهر في أفلام بارني، في الكرسي الخلفي لسيارة ليموزين أمريكية فخمة، كما ظهر بارني، كرجل شبه عاري ومربوط بالسلاسل يأتي في العاصمة المجرية بوادبست، فيرمي نفسه في نهر الدانوب بينما «ملكة السلاسل» تنظر إليه من أعلى الجسر.
هذه الأدوار التي رآها النقاد السينمائيون كخيالات غريبة تم تجسيمها في هذه الأفلام لقيت إقبالا مفاجئ من النقاد والجماهير وحتى تجار التحف ومتاحف الفن المعاصر الشهيرة في أمريكا التي صارت ترغب في ضم التماثيل والرسوم التشكيلية التي استعلمها بارني في أفلامه إلى تشكيلتها لما فيها من تميز وإبداع جعله يحصل قبل ثلاثة أعوام على جائزة رفيعة المستوى، تمثل للفن ما تمثله أوسكار للسينما، مقدارها خمسين ألف دولار من متحف جوجاينهايم لأفضل مشاركة فنية قدمت للفن المعاصر في ذلك العام.
ولك أن تعرف أن الإقبال على أفلام ماثيو بارني، ما بعد الحداثية، ليس مجرد موجة موسمية، بل إن أفلامه مازالت تلقى إقبالا واسعا سواء كان ذلك في لوس أنجلوس أو نيويورك أو طوكيو أو لندن، بينما يناقش كل عمل جديد من أعماله على المستوى الفني المتخصص على أنه حدث هام في مسيرة الفن الأمريكي المعاصر وإنجاز بديع في مسيرة مابعد الحداثة الفكرية والفنية.
آخر أفلام بارني، اسمها «كريماستر»، والذي يتكون من خمسة أجزاء يزيد كل جزء منها عن ساعة كاملة، تحكي قصة رجل قاتل اسمه جاري جيلمور، والذي كان قد أعدم رميا بالنار في أمريكا في عام 1977 وألفت رواية شهيرة حول قصته اسمها «أغنية الجلاد»، والتي يشارك مؤلفها الأديب نورمان مايلر، في تمثيل مسرحية بارني.
لكن تبسيط الفيلم على أنه حول جاري جيلمور، هو كتبسيط لوحة بيكاسو الشهيرة، جويرنيكا، للقول بأنها صورة فرس.
المسرحية تحمل كل ماتطالب به «مابعد الحداثة» من الابتعاد عن السردية الزمنية أو المكانية أو النصية وتجنب المعنى الواضح الذي لا يستدعي الكثير من إعمال الفكر واستخدام المخزون الثقافي للمتلقي.
المشاهد معظمها صامتة بحتة، حيث لا تزيد الحوارات الموجودة في الفيلم عن الصفحة الواحدة مع خلفية صوتية غريبة وشديدة التفاعل مع أحداث الفيلم، أما الديكورففيه الكثير من الغرابة أيضا حيث ترى قطع الزجاج المتكسر تتفاعل مع جبال الملح والأعلام والرسوم الطائرة.
على المشاهد أن يعيش مع الفيلم في محاولة لفك الأعمال التمثيلية والفنية الرمزية ليصل لمعنى الفيلم وهو أمر ليس بالصعب جدا على كل حال على المشاهد الذي يعشق التعامل مع أبعاد المعنى ما بعد الحداثي ليصل فجأة في النهاية لفهم كامل وخاص وغريب في نفس الوقت للعالم والحياة كما يتخيلها بارني.
النقاد يقولون بأن بارني «يحاول إيجاد عالم متوازي مع عالمنا ولكنه عالم متشكل على طريقة فهمه الخاص لهذا العالم، عالم جديد تماما غير معتاد».
وبارني يقول، أنه يحاول «إيجاد لحظات حرة خارج المكان تقف بين مرحلة عدم التشكل ومرحلة التشكل النهائي للأشياء التي تتحدد فيها المعاني والإيحاءات المتحجرة التي تبقى عبر الزمن للمعاني والأشياء».
بمعنى أبسط لكي تفهم هذه الأعمال الدرامية والفنية وحتى الأدبية ما بعد الحداثية عليك ألا تتعامل مع الأشياء أو الكلمات أو العلاقات بين الأشياء على أنها تماما ما تدركه أنت عنها، لأنه حسب الفلسفة ما بعد الحداثية مثل هذه الأشياء أخذت معناها النهائي في أذهاننا عبر العصور، وهذا المعنى النهائي متحجر يقيد العقول ولابد من العودة قليلا عبر الزمن لتخيل هذه الأشياء قبل أن تأخذ معناها النهائي هذا.
يبدو هذا في سلسلة أفلام «كريماستر» حين ترى البطل في الحلقة الأولى جنينا يحاول الهروب من «سجنه» والذي حين يحصل له مع لحظة الولادة يكون قد حقق عملا بطوليا ولكنه يبقى نصف إنسان “يمثله الساطير” والذي ينتقل عبر هذه الحياة “في مرحلة الطفولة والمراهقة” مقيدا ضعيفا مسجونا أيضا في سجن أكبر هو سجن القاتل جيلمور في أمريكا، وحين يخرج القاتل من السجن يقتل مرة أخرى ممثلا بذلك ببساطة الفعل الأحمق الذي يرتكبه الإنسان بعد خروجه من سجن الطفولة، ليعود القاتل للسجن “في الرواية” بفعل إرادته ويطلب إعدامه بفعل إرادته الحرة، وهذا ماجعل قصة جيلمور، مميزة في تاريخ الإعدامات في أمريكا.
هذا بعد بسيط واحد من أبعاد المعنى في سلسلة أفلام «كريماستر».
موجة أفلام ما بعد الحداثة التي بدأها بارني، جعلت الكثيرين يرون في العائد المادي والإقبال الجماهيري الذي حققته هذه الأفلام دافعا لإنتاج المزيد من هذه الأفلام، البعض يقترح أن تصاحب هذه الأفلام تقنيات تكنولوجية تعرض أبعاد المعاني كما فهمها نقاد الفيلم على شاشة خاصة مصاحبة للفيلم الأمر الذي طبعا يخالف كل مفاهيم فلسفة «مابعد الحداثة» ولكنها ترضي رغبة الترويج التجاري لهذا النوع الجديد من الأفلام!!.
باختصار، أفلام ما بعد الحداثة هو تفاعل جديد مع حيرة الإنسان الغربي أمام معاني الحياة المعقدة أمامه، تفاعل مثمر أحيانا لأنه ينقل بعض هذه المعاني في شكل أدبي مميز يقدر إمكانيات العقل الإنساني، ولكنه أحيانا تفاعل ممجوج يدخل المتلقي في دوامات من التناقضات المرتبطة فقط بعقد نفسية واجتماعية عميقة لايحتاج المتلقي أن يعيش في عوالمها إذا لم يكن يعاني منها.
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية