مسابقات ملكات الجمال في الغرب بدأت في أوائل هذا القرن الميلادي، معتمدة ببساطة على أساس أن مثل هذا النوع من الترفيه سيجلب الكثير من الحضور الذين سيدفعون تذاكر الدخول، وبالتالي سيجلب الكثير من الإعلانات، وبعد المسابقة سيشتري أناس كثيرون المجلات وألبومات الصور التي ستصدرها الجهة المنظمة للمسابقة، وستشتري وسائل إعلامية حق بث المسابقة، ثم ستأتي جهات إعلانية للاستفادة من ملكات الجمال في الإعلان وتدفع عمولة للجهة المنظمة وهكذا، مما يعني ربحا لا آخر له.
هذه الفكرة «الاستثمارية» البحتة دفعت عشرات الشركات في أمريكا وغيرها من الدول الغربية لتتسابق لتأسيس مسابقات الجمال.
كانت معظم النساء في العشرينات الميلادية في أمريكا يلبسن غطاء للرأس مع الثياب الطويلة، وبدأ هذا التقليد في الزوال مع ثورة حركات تحرير المرأة العلمانية ليصل أوجه في الخمسينات والستينات الميلادية عندما أعطي للمرأة حق الانتخاب السياسي وصدرت قوانين مساواة الرجل بالمرأة.
مع نهوض هذه الثورة كان جسد المرأة هو أفضل ما يمكن أن يجلب المال، سواء كان ذلك في مسابقات ملكات الجمال إلى عروض الأزياء والأفلام السينمائية وحتى الإعلان التجاري.
نجاح مسابقات ملكات الجمال استثماريا على المستوى المحلي سمح لبعض الشركات أن تتضخم على الطريقة الرأسمالية لتؤسس مسابقة ملكة جمال العالم، وملكة جمال الكون، وملكة جمال القارات، وهكذا، وقد يفاجأ القارئ إذا عرف أن هناك أكثر من 20 شركة عالمية ترعى مسابقات لملكات الجمال حول العالم، التوسع حول العالم كان مكلفا لبعض الشركات التي ذهبت للدول المحافظة واضطرت أن تنفق الكثير حتى تقنع المجتمع بمسابقات ملكات الجمال قانونيا وإعلاميا واجتماعيا.
أيضا قامت شركات أخرى بتأسيس مسابقات لجمال الأطفال الرضع “أقل من سنة”، والبنات أقل من 6 سنوات، والبنات التي أقل من عمر 12 سنة، والفتيات والشباب المراهقين، وفتيات عمر 18، ومسابقات للمعوقات، ومسابقات لكل جزء من جسد المرأة، ومسابقات لجمال الشباب وأخرى لجمال الرجال الأكبر عمرا، ومسابقات للمثليين الشاذين، ومسابقات للحيوانات على اختلافها، ومازال الباب مفتوحا بالطبع لأي فكرة جديدة تجلب جمهورا وإعلانات ومالا.
تحكيم هذه المسابقات يتم عادة من خلال أسلوبين رئيسيين:
- الأول: الانتخاب من خلال الجمهور المتفرج الذي يشاهد العرض ويقرر بالأغلبية الفائز.
ولأن هذا الأسلوب لم ينجح في كثير من الأحيان لوجود عنصرية من بعض قطاعات من المشاهدين ولبروز أسس مقننة لاختيار الفائزين، لجأت الشركات للأسلوب الثاني الأكثر شيوعا والأغلى تكلفة.
- الثاني: إحضار مجموعة من المحكمين المعروفين في هذا المجال والذين يتفقون على أسس معينة للتحكيم ويعلنونها للمتسابقات، ويعطي كل محكم رأيه في المتسابقين ثم تؤخذ الآراء بالأغلبية.
هذه الأسس لا تركز أبدا على رأي المحكم في جمال المتسابقة _ كما قد يوحي اسم المسابقة _ بل على أساس قواعد معينة تتعلق بالجسم كما تتعلق بطريقة المشي وأداء التمارين أو الرقصات المطلوبة في المسابقة، وبالمؤهلات والقدرات الخاصة، والقدرة على إجابة أسئلة المحكمين أمام الجمهور بذكاء وخفة دم، الأمر الذي ينظر إليه على أنه الأصعب بين أجزاء المسابقة، ومرة أخرى تأسيس مثل هذه القواعد جلب الكثير جدا من المال لأولئك الذين وضعوا القواعد في كتب، وأولئك الذين وضعوا كتبا مثل «كيف تفوزي في مسابقات ملكات الجمال؟»، «طريقك السريع للفوز في…»، وكتب حول أكثر أسئلة المحكمين تكرارا وكيفية الإجابة عليها وكيفية التدرب على مواجهة الجمهور أثناء الإجابة، ولما كثرت مسابقات ملكات الجمال ظهرت الأدلة التي تبين مواعيد مسابقات ملكات الجمال وشروط كل واحدة وكيفية التقدم لها، ثم ظهرت شركات متخصصة في تقديم تقييم سنوي لأفضل مسابقات الجمال و«أكثرها عدلا وموضوعية».
وبعد أن تشتهر ملكة الجمال يأتي آخرون ليكتبوا عن حياتها وقصة كفاحها مع الكثير من الصور لها، بل إن هناك كتبا في السوق عن الأكلات التي تفضلها ملكات الجمال، وشيوع هذا الكتاب الذي وزع منه منذ عام 1995 حتى آخر 1997، أكثر من مليوني نسخة يعود للنظرية أن أكل ملكات الجمال هو طريق الرشاقة التي يتميزن بها.
كتب أخرى جمعت إجابات مسابقات ملكات الجمال على الأسئلة في كتاب وحاولت تحليلها _ ليس علميا بالطبع _ وبالمناسبة فهذه بعض أمثلة الأسئلة:
هل لديك أقارب أو أجداد مشهورين؟ ماهي نصيحتك المفضلة للرشاقة أو الصحة أو الجمال؟ ماهي الكلمة الواحدة التي تصفك بأفضل شكل ممكن؟ اذكري الأشياء غير العادية عن نفسك؟.
أحد الأسئلة الشائعة تدور حول الكفاح في الحياة، وهنا تأتي كل واحدة من المتسابقات بمأساة في حياتها استطاعت التغلب عليها سواء كان ذلك صحيا أو اجتماعيا أو حوادث اغتصاب أو غيره، وهناك أيضا كتب تدل المتسابقات على كيفية اختيار أكثر المآسي تأثيرا وضمانا للفوز، وكيفية قولها بعبارات مؤثرة مع شئ من الدموع.
طبعا لن نتحدث هنا عن مستفيدين آخرين جمعوا الكثير من الأموال أيضا بدءا من أطباء جراحات تجميل الصدر والأنف، وموزعي المنتجات الخاصة والغالية لتصفيف الشعر، ومرورا بشركات إزالة الشحوم في مناطق معينة في الجسد، وزيادة تضخم الشفاه.
بعض حركات المرأة في أمريكا كانت وراء دفع مسابقات ملكات الجمال لاعتماد الأجزاء الأخرى من المسابقة _ غير جمال الجسد _ وهذه الحركات ساءها أن ترى جسد المرأة ألعوبة تجارية في يد هذه الشركات وحاولت مقاومة ذلك بعدة أساليب، بينما رأت حركات أخرى للمرأة أن هذا يعني المزيد من التحرر للمرأة وأنها «تستثمر» جسدها في الحصول على المزيد من المال، وتتفاوت الشركات في تجاوبها مع الاتجاهات المختلفة لحركات تحرير المرأة.
إحدى الشركات مثلا أسست مسابقة خاصة بإنجازات المشاركات أثناء حياتهن دون أي تركيز على الجسد، بينما شركة أخرى أسست مسابقة عالمية خاصة بالمتزوجات، ومسابقة أخرى خاصة بالأمهات، على أساس أنهن مضطهدات في المسابقات بعد مرورهن بتجربة الحمل.
أىضا ظهرت حركات كثيرة في الستينات والسبعينات الميلادية تطالب برفع العنصرية ضد السود في مسابقات ملكات الجمال “أول ملكة جمال أمريكية سوداء كانت في عام 1984″، وحركات قبلها في الأربعينات الميلادية تطالب برفع العنصرية ضد اليهود، واليوم لا توجد أي شركة كبرى في أمريكا تجرؤ على تحديد لون معين للفوز أو على تقديم أسئلة حول الديانة أو الأصل، إلا إذا كانت المسابقة تحمل إسما يدل على ذلك مثل مسابقة جمال الإيرلنديات الأمريكيات أو الهنود الحمر وغيرها، وإن كانت نسبة عالية من المشتركات في مسابقات ملكات الجمال من اليهود وذلك ببساطة لكون مالكي معظم هذه الشركات من اليهود أيضا والذين يفتحون الباب لمن يعرفون في دخول المسابقة ويقدمون لهم تسهيلات خاصة.
الأرباح الهائلة التي تحققها هذه المسابقات كانت أيضا محل انتقاد بعض التيارات الاجتماعية في أمريكا، مما دفع معظم الشركات المنظمة لهذه المسابقات لإيجاد أعمال خيرية تنفق عليها الشركة وتفتتحها ملكة الجمال الفائزة.
الصحافة الغربية تنظر للعالم الإسلامي على أنه محارب للمرأة مضهد لها بسبب منعه لمسابقات ملكات الجمال، وربما يفاجأ الشخص بعدد المقالات التي ظهرت في الصحف والمجلات الأمريكية عن قرار إحدى الولايات الماليزية في يوليو 1997 بسجن ومعاقبة 3 مشاركات في مسابقات ملكات الجمال لكونهن لبسن ملابس خليعة تنافي القانون في ذلك الولاية، وخاصة أن ابنه رئيس الوزراء الماليزي، مهاتير محمد، قالت لوسائل الإعلام الغربية، أن مثل هذه المعاقبة تدل على اضطهاد المرأة في ماليزيا من قبل القادة الدينيين «التقليديين» والذي يقفون ضد القادة «الإصلاحيين».
بعض هذه التحليلات ركزت على أثر التمسك بالأفكار الدينية التقليدية على الاقتصاد الماليزي.. إلخ.
وبالمقابل تفاجأ أيضا بالتغطية الخاصة التي تلقاها مسابقات ملكات الجمال في العالم العربي، وهذه التغطية تأتي عادة من خلال أخبار عن رفض بعض الناس لمثل هذه المسابقات وعن تغلب «المتنورين» على الرفض «التقليدي».
ليس فقط المسلمين الذين يقفون ضد مسابقات ملكات الجمال، بل أيضا الهندوس في الهند والذين يعقدون مظاهرات ضخمة كل عام ضد مسابقات ملكات الجمال، ولعلك لا تتخيل كم كانت مفاجأة العالم في عام 1996 حين قام أحد المتظاهرين الهندوس بإحراق نفسه حتى الموت أمام باب صالة عرض المسابقة الختامية لمسابقة ملكة جمال العالم في بانجالور بالهند، واضطرت الشرطة لاستعمال رشاشات المياه لتمنع آخرين من فعل ذلك.
دول أخرى مثل الصين وقفت مجموعات منها وقفات متشددة ضد هذا النوع من المسابقات على أساس أنها وسيلة لـ«تغريب» أو «أمركنة» الشرق.
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية