لا يكاد يمر أسبوع دون الإعلان عن زواج جديد بين شركات ضخمة في أوروبا وأمريكا واليابان ينتج عن اندماجها ظهور شركات عملاقة تزيد ميزانياتها عن ميزانيات بعض الدول أوروبية، وقد يوفر لها ذلك في المستقبل القدرة على التحكم في التجارة في العالم كله.
في الفترة القريبة الماضية، اندمجت ثلاثة من أكبر البنوك اليابانية، فوجي، وداي إيتشي كانجو، والبنك الصناعي الياباني، في هيكل إداري جديد يمثل حاليا الأكبر في العالم من جهة رأس المال، والذي وصل لـ1217 مليار دولار متوفقا في ذلك على مجموعة فرنسية مندمجة تضم ثلاثة بنوك فرنسية، باريبا، وسوسيتيه جنرال، وبنك باريس الوطني، برأس مال إجمالي قدره 5,973 مليار دولار.
الاندماج أىضا كان محل ولادة البنك الثالث في العالم، والذي جاء من اندماج بنك دوتشه، وبانكرز ترست، برأس مال إجمالي قدره 848 مليار دولار.
في العام الماضي، اندمجت شركة كريسلر الأمريكية، تحت مظلة شركة دايملر-بنز الألمانية، برأس مال 43 مليار دولار، بنك سيتيكورب، وشركة ترافلرس، 5,82 مليار دولار، شركة أمريتش، وإس بي سي للاتصالات، 60 مليار دولار، شركة الأدوية الضخمة سيبا، وساندوز مكونين شركة نوفارتيس 3,36 مليار دولار، شركات الاتصالات إم سي آي، وورلدكوم، 30 مليار دولار، بنك سوسيتي، وبنك يونيون السويسريين، 3,24 مليار دولار، وأخيرا الاندماج الأخير لعمالقة صناعة الحديد الألمانية ثيسين، وكروب، 63 مليار دولار.
في عام 1997، كان مجموع رأس مال الشركات المندمجة حوالي 1600 مليار دولار، وكان أبرز هذا الاندماج في مجالات البنوك وصناعات الأدوية والاتصالات وصناعات الغذاء والزراعة وصناعة السيارات.
ما وراء هذا الجري خلال الأعوام الثلاثة الماضية وراء الاندماج والعملقة؟
هو أولا إحدى ظواهر العولمة التي يمر بها العالم عموما والاقتصاد خصوصا، حيث تسعى الشركات أن تكون لنفسها حضورا قياديا مؤثرا على مستوى العالم كله، الأمر الذي قد لا يحصل إلا برؤوس أموال ضخمة كهذه.
أيضا انخفاض أسعار الفائدة عموما مع ميل عالمي لصناديق الاستثمار والأسهم، والتحسن المستمر لأرباح الشركات الأوروبية والأمريكية، شجع الشركات على شراء شركات ضخمة أخرى بدون الخوف من حدوث أي خسارة أو ضعف في الأداء.
ما يلفت الأنظار، أن هذا الاندماج يحدث في مجالات كانت باستمرار تحت رقابة حكومية خاصة. فبينما كانت صناعات السيارات والحديد والاتصالات ذات قيمة استراتيجية خاصة لدى الحكومات في الغرب، لم يعد الأمر كذلك في أوروبا، ويبدو أن الأمر تغير أيضا في أمريكا التي كانت تسخر يوما رجال CIA لخدمة مصالح صناعة السيارات، ثم تحولت لتنظر لشراء كريسلر، ذات الأهمية التاريخية في أمريكا، بواسطة شركة بنز الألمانية، دون أي اعتراض.
خبراء أمريكيون يقولون بأن السبب أن الحكومات الغربية لم تعد كالسابق تعطي أهمية كبيرة للتحركات الرئيسية في السوق مع الإدراك المتزايد، والذي قد لا يكون صحيحا، أن خطر مثل هذه التحركات على النظام بشكل عام قليل جدا.
في الحقيقة، هذا الاندماج له آثار عميقة في مختلف المجالات، بدءا من المجال الاقتصادي نفسه حيث تنخفض المنافسة مع شراء شركات لشركات منافسة لها، كما حدث في صناعة الحديد الألمانية، ومع سيطرة رؤوس أموال ضخمة جدا على السوق.
الاندماج يفيد الشركات بشكل ملحوظ بتوفير المصاريف لكنه أيضا يترك أثرا سلبيا على القوى العاملة، حيث تستغني الشركات دائما مع اندماجها عن آلاف العاملين وصل في بعض الأحيان لعشر القوة العاملة في الشركتين، مما يعني زيادة نسبة البطالة في الدول الغربية التي تتزايد فيها هذه الظاهرة.
أيضا هناك مخاوف بين الخبراء السياسيين أن تصبح لهذه الشركات قوة سياسية واجتماعية تزيد عن قوة الحكومات التقليدية، ولعل الأمثلة التي يطرحها هؤلاء من كون ميزانية «جنرال موتورز»، تزيد عن ميزانية الدانمارك، وميزانية «إكسون»، تزيد عن ميزانية النرويج، وميزانية تويوتا، تزيد عن ميزانية البرتغال، ما يبرر هذه المخاوف.
لو حصل ذلك، فمارجريت تاتشر، التي كانت أول من شجع على حركات التخصيص والاندماج في أوائل الثمانينات في أوروبا، ستكون مسئولة أمام التاريخ عن تدهور النظام السياسي بهذا الشكل.
إلا أن مخاوف هؤلاء الخبراء لا تبدو أنها موجودة لدى السياسيين أنفسهم في أي من أنحاء العالم، حيث الاتجاه للتخصيص والاندماج يتسارع بلا توقف وبتشجيع حكومي قوي.
لكن المخاوف الأكثر تأتي من المستهلك الذي قد يكون الضحية الحقيقية في هذا التضخم، والذي سيكون مباشرة تحت رحمة مدراء الشركات الكبرى التي تتحكم في مفردات حياته الأساسية، وهذا ما جعل عشرات الكتب والمؤسسات تظهر في الولايات المتحدة وأوروبا سعيا لحل ينقذ المواطن العادي قبل فوات الأوان.
بالنسبة للعالم العربي، الاندماج مازال مفردة غير شائعة على الإطلاق بسبب ارتباط الشركات بأفراد من رجال الأعمال الذين بنوا هذه الشركات خلال مسيرة حياتهم التجارية ويبدو لهم من الصعب الاندماج مع غيرهم والتخلي عن كراسي الإدارة العامة لشركاتهم.
إذا كان الاندماج يمثل خطرا بالنسبة لأوروبا وأمريكا حسب ما يراه بعض المحللين، فإن الاندماج قد يكون الحل الوحيد أمام الشركات الصغيرة في العالم العربي في وجه تيار العولمة الذي هبت رياحه على الدول العربية في العامين الأخيرين.
ما تحتاجه الشركات العربية بالتأكيد هو دورات تعليمية متخصصة على نطاق واسع تشرح لهذه الشركات سبل الاندماج المختلفة بحيث يمكن لهذه الشركات اختيار السبل التي تحقق للجميع أقصى الفوائد دون التأثير على المكاسب الفردية لمالكي هذه الشركات ومن يديرونها.
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية