في مطلع التسعينات الميلادية، ومع النمو السريع لمجال الهندسة الحيوية والاكتشافات المتتالية لوظائف الجينات في الجسم وعلاقة جينات معينة بوجود مرض أو خلل وراثي في جسم الإنسان، ظهر مجال العلاج بالجينات، والذي يقوم على استبدال الجينات المشوهة بجينات سليمة أو مطورة.
بنى الباحثون على ذلك آمالا عريضة، لأن هذا يعني علاج أمراض وعاهات جسدية بقيت مستعصية على الإنسان في الماضي، وبدأت روايات الخيال العلمي تتحدث عن استخدام هذه التكنولوجيا الجديدة لتغيير صفات الإنسان، مثل طوله، ولون شعره، وبشرته، وحتى مستويات الذكاء فيه، كما بدأ الباحثون يتحدثون في المؤتمرات العلمية بجدية عن علاج مختلف أنواع الأمراض والتشوهات الوراثية والجينية، كما بدأت مؤسسات البحث العلمي ترصد الميزانيات للبحوث المقترحة في هذا المجال.
لكن بعد حوالي عقد من الزمن من هذه الاكتشافات مازال التحدي الأصعب في وجه العلاج بالجينات قائما: ما هي الوسيلة التي ستحمل الجين السليم إلى الجسم ليحل محل الجين المعطوب؟، بشكل أدق ما هي الوسيلة التي يمكنها حمل عدد كاف من الجينات المرغوبة إلى الجسم بشكل صحي لا يضر بالإنسان وفي نفس الوقت بشكل يجعلها تستهدف مناطق معينة من الجسم؟
أبرز الإجابات على هذا السؤال وأكثرها استخداما في العلاج بالجينات خلال الفترة الماضية كانت ما يسمى بـ«أدينو فيروس»، وهو نسخة مطورة جينيا من فيروس الزكام.
طبعا كان «أدينو فيروس»، يلقح به الجسم فتهاجمه كريات الدم البيضاء، الأمر الذي يسبب أعراضا جانبية مؤقتة أشبه ما تكون بأعراض الزكام.
لكن هذه الأعراض تفاقمت العام الماضي عند أحد الأشخاص الذين كانوا قد تبرعوا بأنفسهم لتجربة علاج بالجينيات إلى درجة سببت إتلاف رئتي الشخص الشاب ووفاته بعد ذلك في مستشفى جامعة بنسلفانيا الأمريكية، الأمر الذي هز مجتمع العلاج الجيني في أمريكا، وسبب بعد ذلك في صدور قواعد مشددة للإشراف على تجارب العلاج الجيني، وفي نفس الوقت بدأ العالم يفكر من جديد في وسيلة نقل لا تثير غضب جهاز المناعة في جسم الإنسان.
جاء الحل على شكل فيروس جديد يشبه كرة القدم اسمه «إي إي في»، والذي يتم حاليا تجربته بواسطة عدة شركات أدوية أمريكية على المصابين بمرض الهيموفيليا، المصطلح المعرب له هو «الناعورية»، وهو مرض وراثي يسبب النزيف المتواصل في جسم الإنسان.
في مطلع هذا الشهر، أعلنت مستشفى فيلاديفيا للأطفال، أنها تمكنت بالتعاون مع شركة أدوية أمريكية، علاج شخصين مصابين بهذا المرض من خلال جين تم تحميله علي فيروس «إي إي في» وتلقيح جسم المريضين به وعلاجهما دون أن يتعرضا لأي أعراض جانبية رئيسية.
وقد أثار الخبر فرحة الأوساط الطبية في أمريكا إلى درجة أن شركتين آخرتين أعلنتا بدء تجارب أخرى على استعمال فيروس «إي إي في» لعلاج أمراض جينية أخرى.
المفتاح السحري
تم اختيار مرض الهيموفيليا للتجارب لأنه في هذا المرض يحتاج الدم في جسم الإنسان اثنين من الجينات البروتينية حتى يمكن لها التخثر.
في حالة هذا المرض، أحد الجينات غير موجودة ويمكن علاج المرض تماما لو وجد الجين الآخر.
حاليا يضطر المرضى أن يحقنوا أنفسهم كل أسبوع لعدة مرات بنسخة مهندسة جينيا من البروتين حتى يمنعوا السيلان أو النزيف الداخلي للدم في الجهاز الدوري لديهم، ولكن مشكلة هذا العلاج أنه غال جدا وفي كثير من الأحيان لا يمنع حدوث أضرار في جسم الإنسان بسبب سيلان الدم.
لكن نجاح فيروس «إي إي في» قد لا يعني المفتاح السحري لعلاج كل الأمراض، لأنه في حالة الهيموفيليا يكفي علاج 5 % من الخلايا المعطوبة لعلاج المرض، بينما في بعض الأمراض مثل السرطان المتغلغل في جسم الإنسان، لابد من استبدال كل الخلايا المعطوبة، وهذا أمر غير معروف بعد ما إذا كان «إي إي في» سيحققه بشكل صحي.
كيف يمكن تحميل جين سليم على فيروس مهندس جينيا؟
الجواب ببساطة كالتالي: يتم تفريغ الفيروس من الأشرطة الجينية بداخله في المختبر، ويتم تلقيح الفيروس بجين بشري يحقق علاج المرض المستهدف أو تعويض النقص في الشريط الجيني في جسم المريض.
يتم تلقيح الفيروس المحمل بالجينات في مناطق معينة من جسم الإنسان تتناسب مع المرض، فمثلا في حالة الهيموفيليا يتم تلقيح الفيروس في الكبد أو عضلة الفخذ.
في جسم الإنسان يتحول الجين الجديد إلى خلية تبدأ بالتكاثر تدريجيا منتجة ملايين الخلايا في فترة قصيرة نسبيا لكون الجين محسن مختبريا، لتبدأ إحداث الأثر المطلوب عندما تصل إلى عدد معين من الخلايا، ولتحل حسب ما هو مأمول محل الخلايا المعطوبة.
لكن المشكلة التي كانت في السابق ومنعت نجاح تجارب علاج أمراض القلب والسرطان وغيرها بالعلاج الجيني هو جهاز المناعة في جسم الإنسان، والتي يفترض إن نجحت التجارب القادمة أن يأتي فيروس «إي إي في» ليحل المشكلة.
اكتشاف هذا الفيروس تم في عام 1992، ولكن المشكلة أن إنتاجه بكميات تجارية كان صعبا جدا إلى أن أمكن عمليا اختراع تكنولوجيا جديدة يمكن من خلالها تفريغ الفيروس من أشرطته الجينية الداخلية.
في عام 1998، بدأت جهود تجربة الفيروس المطور على الحيوانات، وأدت النتائج الإيجابية المذهلة للانتقال لمرحلة تجريب الدواء على الإنسان هذا الشهر والتي تركت نتائج إيجابية ضخمة أيضا.
العلاج بالجينات يمثل حلما بشريا غير عادي نتيجته علاج نسبة كبيرة جدا من الأمراض التي تصيب الإنسان.
نتيجة نجاح تجارب وبحوث العلاج بالجينات تعني أيضا _ من جهة أخرى _ المزيد من التفوق غير العادي للشركات الطبية في الغرب في مجال الاكتشافات وإنتاج الأدوية، والمزيد من التفرج بالنسبة لدول العالم العربي التي مازالت في خطواتها الأولى في مجالات البحث العلمي بمختلف أنواعه.
لماذا يلوم أي أحد د. أحمد زويل، لأنه أراد أن يصبح باحثا ويفوز بجائزة نوبل؟