كثير منا يعشق “ذاكرة المكان”، يحب التاريخ، يريد أن يفهم الروح التي مضت عبر السنين في مدينة أو مبنى أو شارع أو ركن ما، هذا ما يجعل للزمن معناه، ويجعلنا ندرك قيمة الأحداث العظيمة، وحتى تلك اللحظات البسيطة التي نتمنى أن تخلدها الأيام.
هناك تطبيق تكنولوجي جديد جعلني فجأة أعيش في لحظات طويلة من الشرود وأنا أتخيل التاريخ القديم والحديث قد نظم حول “الأماكن”، فتمضي في شوارع الرياض، أو جدة، أو القاهرة، أو دمشق، أو حتى في ثنايا البادية أو عبر منظومة القرى العربية، وأنت ترى لحظة بلحظة أحداث التاريخ وذكريات الناس التي مرت من هذا المكان عبر موبايلك.
قليلة هي المشاريع التي سعت لتنظيم التاريخ العربي الحديث أو القديم من خلال المكان، ولما قام بعضها بقي حبيس كتب التاريخ في مكتبات أمة لا تقرأ، لكن هذا المشروع الذي سأحدثكم عنه سيغير الصورة كليا لو جاء من يتبناه وينطلق به ليضيف لحياتنا عمق الزمن بعدما كان مفقودا.
الفكرة ببساطة هي أخذ الخريطة الرقمية مثل “خرائط جوجل”، والعمل بشكل جماعي – مؤسسات وباحثين وأفراد – على ربط الوثائق التاريخية والنصوص من كتب التاريخ والأخبار الصحفية والصور القديمة والحديثة وذكريات الناس الشخصية بمكانها في الخريطة بأعلى مستوى ممكن من الدقة.
عندما أذهب في الخريطة على الموبايل أو على الإنترنت إلى شارع ما أو حتى إلى مدينة أو قرية أو مبنى، أستطيع أن أرى كل ما تم ربطه بهذا المكان، بما في ذلك الأخبار الصحفية والذكريات الحديثة والتي ستتحول بعد سنوات إلى معلومات أرشيفية وذكريات قديمة، ويصبح لها معناها الجميل.
بكلمات أخرى، هذه طريقة أخرى لإحياء التاريخ في حياتنا وإطلاق نغم المكان في أنفسنا، بحيث تعرف الأجيال الجديدة كل المعاني التي “مرت من هنا”.
هذه أيضا طريقة أخرى لترتيب المعلومات والاستمتاع بها، وستشجع بالتأكيد على أن يحاول الناس إحياء التاريخ في المسميات والتقاليد المرتبطة بمكان ما، وربما يتطور الأمر بنا فنصبح مثل الشعوب الأخرى، نحافظ على قديمنا لأننا نعرف قيمته بدلا من هدمه لبناء عمارة جديدة لا روح لها ولا معنى.
هذه الفكرة ليست مجرد حلم، فهي طبقت بأشكال عدة في الغرب من خلال تطبيقات الموبايل.
أحد هذه التطبيقات على جهاز IPhone اسمه “WhatWasThere“، وتقوم على أساس أن يحمل الناس الصور القديمة وربطها بمكان معين، ومنذ أن أطلق المشروع في فبراير – وهو موقع وتطبيق مجاني – تم تحميل 12000 صورة، بعضها جاء من مؤسسات الأرشفة التاريخية وبعضها من الناس، والنتيجة تجعلك لا تتوقف عن السير في الشوارع عبر الخريطة الرقمية “جربها الآن على النت: WhatWasThere.com“، فترى الصورة القديمة لمكان ما في أوائل القرن مثلا، والحدث التاريخي، وترى الصورة الجديدة، وتعيش سحر الزمن في لحظة، التطبيق يعرف عبر الخريطة الرقمية أين أنت فيريك كل ما يرتبط بمكانك، وأنت تتحرك من مكان إلى آخر.
تطبيق آخر اسمه “It happens here“، وهو يركز على وضع وصف مكتوب لما حصل في مكان ما، مع صورة إذا توفرت، وروابط من مواقع الإنترنت، واستطاع أن يعطي مكان للمحلات التجارية التي تريد أن تتحدث عن تاريخها وتستفيد من ذلك في تسويق نفسها.
تطبيق ثالث مفتوح للمهندسين المعماريين والرسامين الذين يرسمون كيف يتخيلون مدينة ما أو مبنى ما، كيف يمكن أن يتحول أو كيف يمكن أن يكون لو مر بحدث ما، وإن كان هذا التطبيق متوفر حاليا لمدينة نيويورك فقط.
هناك تطبيقات كثيرة مرتبطة بالأماكن، وأنا لا يهمني التطبيق نفسه، بقدر ما أحمل الأمل أن مثل هذا التطبيق لو وجد من وراءه من يعشق التاريخ ويعرف قيمة الذاكرة، ستعطي لحياة الناس في العالم العربي عمقا مختلفا عن الحياة اليومية التي يعيشونها.
قد أكون حالما، وقد يقرأ كلماتي هذه من يقتنع بها، وأنا واثق أن ثراء تاريخ المدن والقرى العربية – انتهاء بالتاريخ الثوري لبعض المدن في عامنا هذا – سيجعل مثل هذا المشروع ساحرا وناجحا، واسمحوا لي بأن أغير الموضوع وأختم ببيت شعر أصيل يختصر معنى ذاكرة المكان في عقل العاشق العربي:
أمر على الديار ديار ليلى اقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية