بينما المصيبة في غزة تتعاظم، والضحايا تزداد حتى تكاد تشمل كل إنسان في الأرض المنكوبة، يقوم “الخطباء” العرب بدورهم التقليدي الشهير: الإعلان الحاسم والصارم، الذي لا يقبل الجدل ولا التفاوض، عن مسؤولية “الآخرين” عن كل ما يحدث، ثم العمل جادين على استغلال الأزمة لتحقيق أكبر مكاسب سياسية ممكنة على أي صعيد، حتى لو كان هذا يعني أن تستمر الأزمة، وتتضخم المشكلة، لأن الأصل هو أن تصفق الجماهير معجبة، وإذا صفقت الجماهير فلا يهم ما يجري خلف المسرح.
قد تظن في البداية أن المسألة لا تتعدى محاولة “تحويل اللوم” وهو طبع إنساني شائع، يستخدمه بعض الناس للتخلص من ألم الضمير من خلال تحميل اللوم على جهات أخرى، وتوجد حوله دراسات نفسية واجتماعية كثيرة، ولكنك تجد أن “الخطباء” يرمون سهامهم في قضايا لا علاقة لها بالضحايا والمأساة، وكأن “غزة” جاءت كفرصة لتسديد الضربات “تحت الحزام”.
هذا دليل على وجود تخلف سياسي عربي عميق في التعامل مع الأزمات، فالمزايدة السياسية صارت أمرا مرفوضا تماما في عالم السياسة اليوم، وصارت من تقاليد السياسة داخل أي دولة متقدمة هي أنه عندما يكون خصمك السياسي في وضع يعالج فيه أزمة وطنية شاملة، فإنه من المرفوض أن تظهر بأجندتك المعارضة وتطعنه في الظهر.
هذا ما يفسر مثلا هدوء أحزاب المعارضة في أمريكا وبريطانيا أثناء حرب العراق، وعدم إظهارهم الرفض بشكل واضح “حفاظا على الروح المعنوية للجنود” ثم إعلانهم هذا الرفض بأقوى ما يمكن أثناء الانتخابات وبعد انتهاء الحرب، حتى لا ينظر للأمر وكأنه طعن في الظهر.
الطعن في الظهر واستغلال نقاط الضعف ما زال مقبولا ومطبقا بين الدول المتصارعة، وإذا كان هذا ما يحصل في العالم العربي فإن هذا يستدعي نتيجتين أساسيتين:
- الدول العربية ليست أمة واحدة، بل أمم عديدة ينطبق عليها ما ينطبق على الدول المتصارعة والمتحاربة، رغم رفض الشعوب العاطفي لهذه الفكرة.
- أزمة غزة هي أزمة “الفلسطينيين” وحدهم والباقون يتعاملون معها بما يخدم أهدافهم السياسية، وهو الأمر المنطقي الذي تمارسه كل دولة نحو أي قضية سياسية حول العالم حين تحاول معرفة كيفية الاستفادة المثلى من الأزمة في تحقيق أهدافها.
هذا الكلام ليس على إطلاقه طبعا، فما زالت هناك دول عربية تنظر للقضية الفلسطينية من وجهة نظر إنسانية وقومية، وهناك دول ترى القيمة الاستراتيجية لعلاج الأزمة، ولكن الصراع الدائر حاليا على مختلف المحاور، وهو صراع قديم، يؤكد أن الخريطة السياسية الحقيقية للعالم العربي مختلفة عن ما يظنه الشباب الخارجين في مظاهرات حاشدة بعد سماعهم لأحد الخطب السياسية العصماء.
قبل فترة بسيطة عبر محمد البرادعي، عن شعوره العميق بالإحباط من أي أمل لتقدم العالم العربي لأنه لا يرى “جهودا جادة” لعلاج المشكلات، ومشكلة غزة لا تختلف عن هذه المشكلات التي يحيطها الكثير من النقاش المسترخي حول الحل دون أي جهود منطقية واستراتيجية واضحة للعلاج سواء كان ذلك على مستوى حماس والسلطة الفلسطينية أو على مستوى دول وتحالفات الجوار.
بالرغم من ذلك، فإن الشعوب التي تحتاج لأن تصفق لأحد وتغضب من أحد، تغفل تماما عن المنطق، وتتعامل مع القضية بناء على آخر خطبة سمعتها وكأن التاريخ أمر ممسوح من الذاكرة.
أنت لا تلوم الخطباء حين يخطبون، والسياسيون حين يتحدثون في المؤتمرات الصحفية، لأن الشعوب العربية – كما يتضح في كل أزمة _ يمكن استغفالها وقيادتها حتى لو كان ذلك نحو حتفها، ما دام الخطيب قادرا على الضغط على الأزرار الصحيحة لإطلاق العواطف الكامنة.
كل الكلام أعلاه هو زفرة غضب من عالم افتقد المنطق على مستوى القادة وعلى مستوى الشعوب، وافتقد الاهتمام بجوهر المشكلة، كما افتقد الاهتمام بالمنطق وفقد الحكمة في أمر يفعله.
هذا بالضبط ما يشرح للعرب لماذا هم متخلفون، ولماذا يقعون خارج الزمان والمكان الذي يعيشه العالم.
هل هناك أمل؟
لا يمكنك أن تفقد الحلم تماما، ولكن الأمل غير ممكن في حال عدم وجود رؤى فعلية للعلاج، وستبقى أيامنا حزينة وجراحنا مفتوحة ومصائرنا مرتبطة بالذين يتقنون المزايدة وإلقاء الخطب العصماء.
كل الذين تظاهروا وكل الذين صمتوا وكل الذين خطبوا وكل الذين رقدوا عبر السنين وكأنه أنه لا يوجد مشكلة، وكل الذين رأوا الحل وقرروا تجاهله، كل هؤلاء شركاء في الأزمة.
لا يوجد حل !!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية