بينما يتجرع الناس الألم وهم يرون أقطاب “القضية” فتح وحماس في حرب ضروس يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني وتذهب رياحها بكل مكاسب السنين الماضية، يتساءل البعض عن السبب.
لماذا الآن فقط قرر الفلسطينيون أن يتحاربوا، هل هي نتاج سنوات طويلة من الاحتكاكات السلبية بين الطرفين؟ أم هي بسبب “العملاء” الذين يستخدمهم الإسرائيليون لتدمير الروح المعنوية للفلسطينيين أم بسبب الفكر الأيديولوجي وخلافاته أم بسبب الحصار الاقتصادي والسياسي الخانق الذي أفرز كل هذه الصراعات؟
قد تكون بعض هذه الأسباب أو كلها مجتمعة قد شاركت في صنع هذه الظاهرة الأليمة، ظاهرة صراع شعب يعاني واشتدت به المعاناة حتى بدأ يأكل نفسه، تماما كما هي العقرب التي إذا حاصرتها النيران انتحرت وقتلت نفسها.
لكنني هنا أريد أن أشير لسبب رئيسي في هذا الصراع، وهو تآكل منظمتي حماس وفتح من الداخل، وهو التآكل الذي أفقد أفرادها صوابهم وجعلها تتصرف بهذا الجنون.
لقد تآكلت المنظمتان لأنها فقدت قادتها الذين أسسوا هذه المنظمة سواء بالقتل على يد الاسرائيلين أو بسبب عوامل السن، والمنظمات تتآكل إذا فقدت قادتها المؤثرين، ولم يأت من يخلفهم، وهو ما حصل في حالة حماس وفتح.
في مطلع الثمانينات، طلبت الخارجية الأمريكية من لجنة استخباراتية تقريرا عن المنظمات والتجمعات السرية في العالم العربي، وقد نشر أجزاء من هذه الدراسة لاحقا، وكانت النتيجة أن معظم هذه المنظمات ليس قائمة على أسس مؤسساتية أو أيديولوجية عميقة بل على أساس ارتباطها بشخصية القائد، أو “الشخصية الآسرة” كما سماها التقرير، وكان التقرير يتوقع لهذه المنظمات الانهيار أو الضعف بمجرد غياب هذه الشخصيات الآسرة من الصورة.
البعض قد يدعي أن جماعة “الإخوان المسلمين” _ على سبيل المثال _ بقيت موجودة وهذا صحيح لأن أسسها الفكرية أعمق من غيرها، ولكن من يتأمل تاريخ الجماعة في مختلف الدول العربية، يرى أن الجماعة تلبس ثوبا جديدا ومختلفا كلما جاءها قائد، ولذلك فإن الإخوان في فلسطين “حماس” مختلفون عن أولئك الذين في مصر أو غيرها في الدول العربية، أي أن الفرق فقط أن الجماعة كانت قادرة على الاستمرار في اختيار الشخصيات الآسرة عبر تاريخها القصير.
لقد كان ياسر عرفات، الشخصية الآسرة في فتح، وكان أحمد ياسين، ومن خلفه الشخصيات الآسرة في حماس، ويبدو أن إسرائيل فهمت دور الشخصيات الآسرة في هذه المنظمات فعملت على تصفيتهم جميعا، الأمر الذي سبب انهيار هذه المنظمات ليبقى لنا منها الأشباه والبقايا الضعيفة التي تتآكل مع الزمن، تغيب منها الروح ويبقى الهيكل فقط.
لذلك كانت من الحكمة في اتفاق مكة أن سعى لإلغاء الدور الطاغي لهذه المنظمات وساهم في تأسيس حكومة وحدة وطنية لتمثل نواة لتنظيم جديد ذي طبيعة أكثر مؤسساتية، ولكن قادة فتح وحماس، لم تكن لديهم القدرة أو الرغبة لتنفيذ الاتفاق والاستغناء عن الهياكل البالية والانتقال لوضع الدولة الذي ينتظره ويحتاجه الشعب الفلسطيني.
قصة فتح وحماس قصة أليمة وحزينة، وهي نفسها قصة الكثير من التنظيمات الأيديولوجية والثورية التي شهدها تاريخنا العربي الحديث والتي ضعفت مع الزمن حين غابت شخصياتها الآسرة.
إن طبيعتنا العاطفية والفوضوية تجعلنا قادرين على الوجود حين توجد الشخصيات التي تقودنا، وهذا حسب رأي المفكر العظيم ابن خلدون هو تعريف “مراهقة الأمم” لأن الأمم الناضجة في رأيه هي الأمم التي ترتبط بالأفكار وليس بالأفراد.
الفلسطينيون يحتاجون لمؤسسات!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية