في اللغة الإنجليزية عبارة شهيرة تقول بأن الصديقين أو الزوجين بينهما “كيمياء جيدة” Good Chemistry، ومعناها طبعا الثناء على الانسجام القوي بين الشخصين.
في الأسبوع الماضي، تحدثت بالتفصيل عن الأبحاث العلمية التي وضحت وجود تغييرات كيميائية معينة تحصل في الدماغ وتتجاوب مع العقل الباطن في حال وقع الحب الجارف بين شخصين، والارتباطات الاجتماعية والنفسية لمثل هذه التغييرات.
لكنني أشرت أيضا في المقال لنوع آخر من الكيمياء، هو كيمياء السلوك الإنساني، وهو في هذه الحالة أقرب للتشبيه منه إلى الحقيقة، فهناك بالفعل علاقات “كيميائية” بين البشر، لأن هناك عناصر أساسية، وتفاعلات، ومحفزات، وناتج جديد للتفاعلات، ومعادلات لهذه التفاعلات، ولكن هذا يحصل على مستوى السلوك وليس على مستوى عناصر كيميائية حقيقية.
معلوم أنه في علم الكيمياء هناك مجموعة تزيد عن المائة من العناصر الأساسية، وهذه العناصر تتفاعل فيما بينها تحت ظروف حرارة وضغط معينة وبوجود محفزات معينة وبناء على معادلات محددة، ونتيجة هذا التفاعل تكون عنصرا جديدا تماما مختلف في صفاته وتركيبه عن العناصر التي كونت هذا العنصر.
المثال الشهير الذي يستخدم عادة لشرح هذا المفهوم الأساسي لعلم الكيمياء هو الماء، حيث تتفاعل ذرتين من الهيدروجين مع ذرة من الأكسجين لتكون جزيء الماء، والذي يختلف في صفاته عن صفات الهيدروجين والأكسجين، علما أن هذا التفاعل لا يتم بشكل صحيح إلا ضمن ظروف معينة ودقيقة للغاية.
نفس القصة تنطبق بشكل حرفي على السلوك الإنساني، فكل إنسان لديه مجموعة من الصفات الإنسانية المحددة والمتأصلة.
عندما يلتقي شخصان، أي شخصين، وأيا كان نوع اللقاء بما في ذلك جلسة سريعة لشرب القهوة، فإن صفات الشخصين تتفاعل بشكل فريد من نوعه حسب ظروف اللقاء لتنتج صفات جديدة للشخصين لا علاقة لها بصفات كل شخص على حدة.
لشرح الفكرة؛ خذ مثلا شخصين يلتقيان فيصبح حديثهما ضاحكا مازحا ساخرا لطيفا سلسا للغاية، ونفس الشخصين لو ذهب كل واحد منهما على حدة والتقى بأشخاص آخرين لوجدت الحديث تحول لحوار ثقيل الدم غاضب ومستفز.
الذي يحصل أن تفاعل صفات الشخصين مع بعضهما وضمن ظروف العلاقة الاجتماعية بينهما أدى لوجود هذا الانسجام وسريان الفكاهة للحديث، بينما تفاعل الشخص مع شخص آخر ينتج حديثا جادا، وينتج حديثا غاضبا مع شخص ثالث، وحديثا رومانسيا مع شخص رابع، وهكذا.
ليس ذلك فحسب، بل إنك تلتقي مع شخص معين فيكون الحديث جميلا عذبا، ثم تلتقي مع نفس الشخص مرة أخرى في ظروف مختلفة فتجد أن الحديث كان سخيفا فيه الكثير من الضجر والغباء.
العلماء الآن يحاولون فهم هذا النوع من الكيمياء للإجابة على السؤال الكبير:
ما هي تلك الصفات التي تتلاقى وتفرز شكلا جديدا للعلاقات كلما تلاقينا مع شخص ما؟ ما هي الظروف التي تحول اللقاء للقاء جميل وما هي الظروف التي تجعله لقاء سلبيا؟ والسؤال الأهم: هل يمكن فعلا فهم هذه المعادلات حول التفاعلات بين الأشخاص بحيث يمكن في المستقبل تفسير ما يحصل في العلاقات بين الناس والتحكم فيها بحيث يكون وضع وصفات سهلة لإمكانية تطوير العلاقات الإنسانية بشكل إيجابي؟
هناك درسان هامان من هذه الرؤية والأسئلة المطروحة أعلاه.
- الأول: أن العلاقات الإنسانية أمر معقد جدا، فلا يكفي النية الطيبة والأخلاق المميزة لكسب قلوب الناس بل إن هناك الكثير من العوامل التي تحدد شكل اللقاء الاجتماعي ونجاحه مع شخص آخر وضمن ظروف معينة.
عادة يتطلب القدرة على اكتشاف هذه العوامل الكثير جدا من الجهد والعمل الشاق والذكاء حتى يصل الإنسان لمستوى مرضي من العلاقات الكيميائية مع الآخرين.
- الثاني: أن نجاح العلاقات الاجتماعية والإنسانية مع الآخرين مربوط بالفرد نفسه، فنحن نملك الكثير من التحكم والأمور ليست خارجة عن سيطرتنا، ولكن علينا أن نفهم أن كل علاقة لها ثلاثة أسباب للنجاح: صفات الشخص الأول، صفات الشخص الثاني، وظروف اللقاء الاجتماعي.
إذا أعجبك الكلام أعلاه، ابدأ _ إن شئت _ ببناء معادلاتك الشخصية حول كيميائك الاجتماعية الشخصية.
مثلا سجل ملاحظة بعد لقاء عذب مع صديق قديم:
عندما لا أكون مهموما بالعمل وأجلس على قهوة خارج المنزل، وعندما أبدأ الحديث مع الأصدقاء القدامى بالذكريات الجيدة من أيام الصداقة الأولى وعندما يكون صديقي بعيدا عن أسرته تكون النتيجة لقاءا عذبا جميلا.
طبعا سنشعر بالسخافة لو أردنا فعل ذلك بعد كل لقاء، ولكن تخيل لو كانت هذه الملاحظات مسجلة بشكل دقيق على إطار واسع من الناس، ألم يكن لهذا أثر السحر في فهم العلاقات الإنسانية وعوامل نجاحها؟
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية