هناك سؤال شهير يطرح دائما في الأوساط الإعلامية وهو: هل ستحل الصحيفة الإلكترونية محل الصحيفة الورقية؟
الجواب الشهير المرتبط بالنظريات الإعلامية الكلاسيكية بأن الصحيفة الإلكترونية لن تحل محل الصحيفة الورقية كما أن التلفزيون لم يلغ الراديو، وإنما ما سيحصل حسب ما تقوله النظريات هو إعادة توزيع للوظائف الإعلامية، ففي السابق كان الراديو هو مصدر الخبر والترفيه، وانحصر دوره ليصبح كذلك في السيارة فقط بينما التلفزيون سيطر على الترفيه المنزلي، وكانت الصحيفة اليومية مصدر الخبر، وتغير الأمر لتسيطر القنوات الإخبارية والإنترنت على تزويد الناس بالأخبار السريعة، بينما تغير دور الصحيفة اليومية ليركز أكثر على تقديم التغطيات والتحليلات الخاصة التي تنفرد بها، أي في النهاية كلما جاءت وسيلة إعلامية أخذت وظائف معينة وأعادت توزيع الوظائف بين وسائل الإعلام الأخرى بناء على المنافسة بين هذه الوسائل.
أنا شخصيا أؤيد هذا الرأي بالطبع، ولكنني أميل أيضا إلى أن الصحيفة الإلكترونية ستحل محل الصحيفة الورقية عبر الزمن، لأننا هنا أمام حالة خاصة يزيد فيها اعتماد العالم على التكنولوجيا وعلى المعلومة الرقمية والاتصال عبر الأجهزة المتنقلة وعبر الإنترنت، ومع مرور السنين ستصبح التكنولوجيا جزءا أساسيا من حياة كل إنسان تتمحور حوله أنشطته واتصالاته وطريقة تحصيله للمعلومات.
وأعتقد أن السبب واضح لماذا يمضي العالم نحو الاعتماد على التكنولوجيا، فهي تقدم مزايا ساحرة تسهل من حياتنا وتزيد من الإنتاجية الفردية والجماعية وتقضي على الكثير من التحديات التي يفرضها العالم الكلاسيكي.
ولكن لماذا لا يحصل هذا الأمر مباشرة؟ لماذا لم تصدق توقعات بعض فلاسفة التكنولوجيا ويعتمد العالم على التكنولوجيا خلال سنوات قليلة؟ لماذا ما زال معظم الناس يرتاحون للقراءة من الورقة المطبوعة أكثر من القراءة عبر الإيميل وما زالوا يحفظون كتبهم في مكتبة ضخمة بينما يمكن وضعها جميعا على قرص DVD واحد؟
الجواب ببساطة هو ما يسمى بـ”المنحنى التعليمي” Learning curve، والذي يؤكد على أن الناس بطبيعتها تتعلم الأشياء وتكتسب العادات ببطء شديد يتفاوت من شخص إلى آخر، الأمر الذي يؤثر سلبيا على كل عادة جديدة وكل مخترع جديد.
التكنولوجيا فيها من المميزات ما يجعلها أفضل في حياة الناس، وعقلانيا يفترض أن ينتقل الناس لاستخدامها بين يوم وليلة، ولكن هذا يتطلب وقتا طويلا بسبب المنحنى التعليمي لدى الناس والذي يتطلب أن نتعلم شيئا بعد الآخر، لا نتعلمه فقط بل أن يصبح جزءا طبيعيا من حياتنا اليومية كالقراءة من الشاشة، أو الاقتصار على الإيميل لإجراء اتصالاتنا التجارية بدلا من الاجتماعات الشخصية، أو الشراء من على الإنترنت أو الجوال بدلا من الذهاب للمحل التجاري وغيرها، نتعلمه ونتبناه لدرجة أننا مستعدين لدفع ثمنه إذا فقدناه !
لقد كان نسيان هذه القضية سببا رئيسيا في فشل الكثير من الاستثمارات في مجال الإنترنت وخدمات الجوال والتكنولوجيا بشكل عام، سواء في المملكة أو على مستوى العالم.
خلال ست سنوات ماضية، كنت قريبا من كثير من مشاريع التكنولوجيا في الرياض، وكنت تسمع الحماس من رجل الأعمال أو مدير الشركة التي ستطرح المنتج الجديد والتأكيد على أن الأرباح ستنهال على الشركة، فقط لأن المميزات التي يطرحها المنتج رائعة ولا مثيل لها، ولكن الكثيرون كانوا ينسون المنحنى التعليمي، ويطرح المنتج في السوق، ولا أحد يقبل عليه، وفي الكثير من الأحيان تعلق الخسارة على مسؤول التسويق أو على المجتمع “المتخلف” أو البنية التحتية، دون أن ينتبه لدور بطء الناس بطبيعتهم البشرية في تبني العادات الجديدة.
هذا العامل مرتبط بعامل آخر ساهم أيضا في فشل الكثير من الاستثمارات في مجال الإنترنت وهو أن وجود المنحنى التعليمي يفرض النظر إلى الاستثمار على أنه “طويل المدى” و”عال الخطورة”.
ولكن الكثير من الاستثمارات التكنولوجية تم تأسيسها بدون دراسة وخطة تجارية Business Plan لخمس سنوات على الأقل، وفي حال وجدت الدراسة فإن هذه الدراسات كثيرا ما تكون “متفائلة جدا” وتعتمد على تخمينات “القيل والقال” في السوق دون وجود معلومات رصينة تدعمها.
أحيانا توجد الدراسة ولكن المستثمر لا يقرأها، وعندما يمر عام دون أرباح، تبدأ علامات الغضب تظهر على وجوه الشركاء ويكون القرار العصبي في ليلة “بلا قمر” هو إغلاق الشركة وصب اللعنات على العاملين فيها.
هذا لا يعني أن الاستثمارات في مجال التكنولوجيا هي استثمارات خاسرة، لأن الناس تمضي نحو استخدام التكنولوجيا، ومن يبدأ معهم أولا ويقدم لهم المنتج الجيد بناء على خطة واضحة ويصبر على الاستثمار سيحصد الثمار في أرباح مضاعفة يندر أن تحصل عليها من القطاعات الاستثمارية الأخرى التي تشتد فيها المنافسة ويزيد فيها العرض عن الطلب.
عندما بدأت الشبكات التلفزيونية الأمريكية في منتصف القرن الـ20، استثمر الملاك عشرات ملايين الدولارات، عندما كان مثل هذا المبلغ ثروة ضخمة، وكان يبدو كأنها مقامرة خاسرة، لأن جهاز التلفزيون الغالي جدا والضخم جدا لا تتحمله معظم الأسر الأمريكية التي كانت تكتفي بالراديو والذهاب إلى السينما والمسرح، كما كان قطاع الإعلان محدودا في كبرى الشركات فقط، ولكن مع الزمن صارت هذه الاستثمارات رابحة جدا بسبب البداية المبكرة، وما زالت هذه الشبكات مسيطرة على السوق الأمريكية حتى الآن.
لقد آمن هؤلاء المستثمرون بالتلفزيون كتكنولوجيا، لأنها عقلانيا يجب أن تنتصر، وصبروا على المنحنى التعليمي وعلى سنوات الإنفاق الطويلة وحصلوا على النتائج، والأمر نفسه ينطبق على المستثمرين الأمريكيين في التكنولوجيا _ Yahoo و Amazon و Google وغيرها _ وعلى الصحف الأمريكية التي تضع صحفها الإلكترونية على الإنترنت مجانا رغم التكلفة العالية وخسارة الكثير من الاشتراكات للطبعة الورقية.
إن الاستثمار في التكنولوجيا يفشل عندما يكون الإيمان بها ضعيفا!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية