قبل أن تقرأ هذا المقال، أرجو _ لدقائق فقط _ أن تترك كل التعريفات والإيحاءات التي تنتابك عندما تسمع مصطلح “الليبرالية” جانبا، وذلك لسبب بسيط أن الليبرالية كلمة يستخدمها كل شخص كما يشتهي ليدل بها على ما يريد.
والغريب في هذا المصطلح أن من يكرهونه يستخدمونه كـ”شتيمة” ضد كل من يخالفونهم، ومن يحبون هذا المصطلح، يستخدمونه وكأنه فصل على مقاسهم فقط، حتى لو كانوا أبعد ما يكونون عنه.
“الليبرالية” Liberalism، كمصطلح غربي ليس له مرادف في اللغة العربية، له معنى فلسفي واضح، وله معنى سياسي، والليبرالية بمعناها السياسي تختلف من دولة لأخرى، وذلك حسب الأحزاب السياسية، ومناهجها، فبينما في بريطانيا تركز على التسامح الديني وإعطاء الأديان حقها في النمو والحركة الاجتماعية، فإن في فرنسا لها معنى سياسي مضاد حيث ترتبط بالعلمانية الفرنسية التي تحاول منع الأديان من السيادة، وهي في أمريكا وأستراليا مرتبطة بالحرية الاقتصادية “الرأسمالية”، أما في الدول العربية، فإن لها معنى أو أكثر في كل دولة حسب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتلك الدولة.
لكن تغير المعنى السياسي وتذبذبه لا يعني أن المصطلح غير واضح فلسفيا، فمذهب الليبرالية يركز في معناه الأصلي على الاهتمام المكثف بحقوق جميع الأفراد في المجتمع، بحيث لا يتم اغتصاب هذه الحقوق لصالح فئة قليلة في المجتمع تفرض رؤاها ومصالحها على البقية وتسير المجتمع كما تريد.
في نفس الوقت تتوازن حقوق الأفراد مع حقوق المجموع، فلا يجوز أن يطغى تلبية الاحتياجات الفردية على مصلحة المجموع، لأنه ببساطة سيتأثر الكثيرون سلبيا إذا تضررت مصالح المجتمع العامة.
كمثال بسيط، إذا كانت ممارسات الأفراد ستلوث البيئة، فإن الأفراد عليهم أن يلتزموا بنظام عام للحفاظ على البيئة حتى لو أثر هذا على مصالحهم الفردية، لأن تلوث البيئة سيضر أفرادا آخرين.
بقي الجدال القائم تاريخيا وحتى اليوم وتتغير اتجاهاته عبر السنوات هو الجدال حول ما يمثل مصلحة للفرد وما يمثل مصلحة للمجتمع، فمثلا لما اتجه التفكير العام في أمريكا إلى أن الخمور تؤثر على التماسك الأسري بسبب ميل الذين يكثرون الشرب إلى الطلاق وخيانة زوجاتهم تم منع الخمور كليا في أمريكا لمدة تسع سنوات، ولما طغت الرؤية الأخرى بأن هذا يدخل في الحرية الشخصية وأن التمزق الأسري له أسباب أخرى، تم تغيير القانون بحيث تم السماح بالخمور ذات نسبة الكحول المنخفضة، حسب ما هو مطبق حاليا.
في العالم العربي، لم يتطور الجدال حول مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع بشكل علمي ومفصل بعد، ولذلك يبقى مصطلح الليبرالية في مهده مفتوح للاجتهادات، وذلك بالرغم من أن المجتمع الإسلامي في القرون الهجرية الأولى كان محافظا على هذا التوازن، فرغم تطبيق الخلفاء للشريعة الإسلامية، كان هناك الكثير من الحرية الفردية التي عبر عنها الأدباء والفقهاء في كتبهم، وكان الاستنكار يتم بالكلمة والضغط الاجتماعي دون تدخل قانوني، وكان من النادر استخدام رجال الشرطة في فرض طريقة معينة في تعامل النساء والرجال في الأسواق، أو في ملاحقة شاربي الخمور، ما لم يشتك أحد للقضاء، أو كان الخليفة على اطلاع شخصي على الحالة، أيضا كان من النادر التدخل في محتوى الكتب والخطب بأنواعها.
في نفس الوقت، كان هناك إيمان واسع النطاق بأن تمدد الدولة الإسلامية وانتصارها في معاركها أمر حيوي لمصلحة المجموع، فكان الناس يجبرون على المشاركة في هذه المعارك، وتطبق في حقهم أقصى العقوبات إن تخلفوا عن الجهاد مع جيوش الدولة الإسلامية.
في زمننا هذا تغيرت الظروف، وبالطبع ستتغير الاجتهادات، ولكن هذه الاجتهادات بقيت محدودة بعد أن فقدت النخبة هذا التركيز، وصارت تعيش تحت أسر الشعارات والمبادئ المثالية، دون أن تنتبه لأنه لا يمكن وضع الناس في نظام يشبه الثكنة العسكرية التي تطبق فيها كل الأنظمة بشكل مثالي ويمشي كل الناس في خط مستقيم، كما لا يمكن في نفس الوقت ترك المجتمع في حالة فوضوية لأن كل شخص يريد حقوقه الفردية دون مراعاة المجتمع ومبادئه وقيمه الدينية والفكرية.
رغم كل الاجتهادات والتغيرات، يبقى مصطلح الليبرالية الأصلي مرتبطا بهذه المعادلة فائقة الأهمية لتحقيق التطور الدائم نحو رفاه الإنسان، واستقرار المجتمع، أو كما قال فيلسوف الليبرالية جون ميل، في عام 1859: “الليبرالية حالة من السعي الدائم نحو الكمال”، وذلك لأن الوصول لأفضل توزان بين مصالح الفرد والمجتمع، معناه تحقيق أكبر نسبة ممكنة من مصالح الفرد دون التأثير في مصالح المجتمع، ودون التقليل من الإطار الأخلاقي والديني للمجموع.
نحتاج لليبرالية لأننا نحتاج لهذا التوازن، وفي رأيي الشخصي، سيكون السعي الدؤوب لتحقيق هذا التوازن والنقاشات المرتبطة به، وفهم المجتمع لأهمية المصلحة الفردية، بالإضافة لفهم الفرد لمصلحة المجتمع، سيكون هذا السعي الشرارة الأولى للخروج من حالة الفوضى العامة التي يعيشها المجتمع العربي.
الآن يمكنك أن تعود لمفاهيمك القديمة عن الليبرالية، إذا لم تقتنع بما قلت أعلاه!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية