لما اخترع المفكر الاقتصادي بيتر دكر، مصطلح “الاقتصاد المعرفي” Knowledge-based economy في عام 1969، كان قد وضع يده على جرح مستقبلي لم يحصل فعلا إلا في التسعينات الميلادية، حيث تحول الاقتصاد المعرفي إلى الحل الوحيد للاقتصادات العالمية التي واجهت أزمة عنيفة متمثلة بالعولمة.
الأزمة كما هو معلوم تمثلت في الانتقال السريع للخبرات والأنشطة الروتينية والتقنية إلى مصانع آسيا، وبدأت رؤوس الأموال ترى في هذه الهجرة توفيرا كبيرا في المصاريف، وصار المفكرون الاقتصاديون والسياسيون يرون الاقتصادات الغربية الصناعية والخدمية مهددة بهذا العامل الصيني أو المبرمج الهندي المستعد لتقليد معظم ما يفعله أقرانه الغربيين بأجر أقل بكثير منهم.
في أواخر التسعينات سيطرت المنتجات الصينية والمكسيكية على المتاجر الأمريكية، وبدأت المصانع الأمريكية تنتقل تدريجيا إلى دول آسيا أو أمريكا اللاتينية، وبدأ الأوروبيون يتحركون في الاتجاه نفسه، وحينها ظهر السؤال القاسي: إذا كان الآسيون يفعلون كل ما نفعل بسعر أقل بكثير، فكيف سنتفوق في المنافسة؟
جواب وحيد ظهر في الأفق وهو “الاقتصاد المعتمد على المعرفة والخبرة الخاصة”.
الغربيون يعرفون أنهم في النهاية يملكون الخبرة الاقتصادية الخاصة التي مكنتهم من قيادة تطورات الاقتصاد في القرنين الماضيين ويعرفون بسبب هذه الخبرة توجيه القدرات الإبداعية التي تنتجها مدارسهم بشكل يمكنهم من الاستمرار في قيادة تطورات الاقتصاد، ويعرفون أنهم استثمروا الكثير جدا في بناء قواعد معلومات متنوعة تكفل لهم تحقيق ذلك.
لقد أحسنت الهيئة العامة للاستثمار باختيار “الاقتصاد المعرفي” كأحد التوجهات الاستراتيجية للاسثتمار في السعودية، ولكني أعتقد جازما أن ما تم تحقيقه في هذا المجال ما زال في البداية، وخاصة أن الهيئة تركز على واحد من جوانب الاقتصاد المعرفي وهو الاستثمار في نقل “الصناعات المعرفية” من الغرب إلى المملكة، مثل صناعة الهندسة الحيوية Biotechnology، ولكن هناك جانب آخر ينبغي النظر إليه _ في رأيي _ بعناية خاصة.
الاقتصاد المعرفي بحاجة دائما إلى الإطار المعلوماتي الخاص الذي يمكنه من الاستمرار.
الاقتصاد المعرفي يتضمن معرفة الكيفية Know-how والذي يمثل الخبرة التقنية المتقدمة ومعرفة الـ”ماذا” أو معرفة المنطق والأهداف know-what، ومعرفة الكيفية تحتاج لمعرفة الماذا حتى تعرف ما تصنعه بالخبرة، لأنني إذا كنت أعرف أسرار الهندسة الحيوية مثلا فلا بد لي أن أعرف ماذا أفعل بهذه الأسرار بحيث أحولها إلى مشاريع تجارية ناجحة.
دول الخليج العربي لها خصوصية اقتصادية لا تخفى على أحد.
هذه الخصوصية تتمثل في أنماط الإنتاج النفطي وأنماط الاستهلاك، كما أن دول الخليج تمثل حاليا القلب الاقتصادي النابض للعالم العربي من المحيط إلى الخليج، وخاصة مع وجود المستثمرين الخليجين الذين تطوف رؤوس أموالهم مختلف دول العالم الثالث.
لو تم تأسيس هذه الخبرة المعلوماتية الاقتصادية وتطويرها في قواعد معلوماتية منظمة وتحليلها بناء على احتياجات المنطقة الاقتصادية فإننا بذلك سنملك قاعدة هامة لـ”معرفة الماذا”، بل إن مثل المعرفة الخاصة ستكون لها قيمتها على مستوى دول العالم النامي.
قد يبدو هذا الكلام خياليا ورجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية تعالج أزمات أكثر حدة هذه الفترة، ولكن ما أقوله هو اتجاه استراتيجي يمكن النظر فيه ومناقشته على المدى الطويل.
يجب أن نبحث عن نقاط المنافسة التي تميز دول الخليج عموما والمملكة العربية السعودية خصوصا وتنمية هذه النقاط بما يحقق لنا التواجد على الخريطة الاقتصادية العالمية، وإذا كان النفط قد ساهم في تقديم السيولة النقدية التي تجعل من هذا الأمر مهمة أقل صعوبة، إلا أن الرؤية الاستراتيجية الواضحة هي التي ستحقق لنا ذلك.
لا أظن أننا في ظل التطورات الحالية سننافس على مستوى الاقتصاد الصناعي، وهذا يترك أمامنا خيارات محدودة نحتاج لمناقشتها بشكل عميق قبل أن يفوتنا القطار تماما.
لقد استطاعت دبي أن تفهم المنطقة بشكل جيد وأن تنمو بناء على هذه المعرفة من خلال تقديم “الخيارات البديلة” للأعمال في المنطقة وساعدها هذا على الفوز بالمنافسة الاقتصادية، وتنمية هذه المعرفة وتأسيسها حل أساسي في رأيي لسؤال المستقبل الاقتصادي في المنطقة.
ربما اخترت الوقت الخاطئ لهذه المقالة في ظل انهيار سوق الأسهم!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية