تدور الحملة الانتخابية الأمريكية التي سيقودها المرشح الديمقراطي ضد الرئيس جورج بوش، حول قضية أساسية تحير أمريكا من أقصاها إلى أقصاها وهي “التوسع في سد الذرائع”.
لقد واجهت أمريكا أزمة تاريخية عندما وجدت نفسها، وهي الخارجة من انتصار الحرب الباردة، معرضة لأخطار داخلية بسبب “الإرهاب”.
مشكلة المجموعات التي تريد معاقبة الأمريكيين على سياسات دولتهم الخارجية أنهم موجودون في كل مكان، يمكنهم ببساطة استغلال ثغرات الحركة في الدولة، وتسديد ضربات يذهب ضحيتها آلاف الأبرياء، كما حصل في 11 سبتمبر.
الرئيس بوش، شأنه شأن كل اليمينيين في العالم، أخذ بمبدأ “التوسع في سد الذرائع” فراح يذرع الأرض طولا وعرضا باحثا عن هذه المجموعات “الإرهابية”، وغدت أمريكا مقيدة بقوانين متشددة للحفاظ على الأمن، وفي نفس الوقت جعلها منفرة للسياح والطلاب والراغبين في العلاج، وصار الكثير من الناس أشد كراهية لأمريكا بعد 11 سبتمبر بسبب هذه الإجراءات.
من جهة أخرى، فرض بوش قبضته الحديدية عالميا، وصارت كل دولة في العالم تراجع أنظمتها لتجاري أمريكا في حصار المجموعات المحاربة لأمريكا.
الديمقراطيون، من جهتهم شأنهم شأن اليساريين دائما، قالوا بأن هذا التوسع في سد الذرائع أدى للكثير من النتائج السلبية، فصار الأمريكي مرفوضا، وباتت أمريكا في خوف وهمي، وكانت النتيجة هي التأثير السلبي على الاقتصاد، الذي ترك الكثير بلا وظائف، وعطل النمو الاقتصادي القومي، وترك أمريكا في أكبر عجز اقتصادي تاريخي.
أما الشعب الأمريكي، فعليه أن يختار إحدى هاتين السياستين، “التوسع في سد الذرائع”، أو التقليل من سد الذرائع حتى “لا يؤدي النهي عن مضرة إلى مضرة أكبر منها”.
ولعل كل “حوار وطني” سواء حسم بالانتخابات، كما هي الحالة الأمريكية، أو حسم بمؤتمر “لأهل الحل والعقد” كما حصل في مؤتمر الحوار الوطني بالمملكة يدور حول هذه القضية.
يوجد دائما لكل قضية عدة أوجه، ولكل وجه من أوجه القضية إيجابيات وسلبيات، وعلى الناس أن تختار الوجه الذي يحمل أفضل الإيجابيات وأقل السلبيات.
لكن هذا الفهم للقضايا الجدلية المثيرة للخلاف يتحقق فقط بثلاثة شروط:
- الأول: أن يفهم الجميع أنه ليس هناك “خير محض” أو “شر محض”، وأن لكل أمر وجوهه المتنوعة، التي تحتاج لدراسة، كما تحتاج النتيجة النهائية لدراسة وتمحيص، حتى يدرك صانع القرار كل أبعادها، ثم يتخذ القرار الأنسب.
- الثاني: أن “التوسع في سد الذرائع” ليس خطأ، فمن الجميل أن نمنع كل ما يؤدي للشر من قريب أو بعيد، ولكن الخطأ أن نتوسع في سد الذرائع، مؤدين بذلك لمشكلة أكبر، والسلف رضوان الله عليهم كانوا يرفضون دائما “دفع مضرة بمضرة أكبر منها”.
- الثالث: أن الإيجابيات والسلبيات قضايا متغيرة، فما كانت سلبياته قليلة قبل عشر سنوات، قد تكون سلبياته كثيرة اليوم، والعكس صحيح، والقاعدة تنطبق على الإيجابيات، وكان هذا سببا منطقيا في تغير الفتاوى وتغير القوانين وتغير الإجراءات المؤسساتية عبر السنوات.
قريبا سيعقد مؤتمر للحوار الوطني في المملكة يناقش قضايا المرأة.
حتى نصل لقرار سديد، لا بد من رسم سيناريو متكامل للحلول المطروحة لمشكلات المرأة ثم دراسة إيجابيات وسلبيات كل سيناريو لاختيار الأفضل منها، وهذا يمكن تطبيقه، على سبيل المثال، عند مناقشة قيادة المرأة للسيارة.
من الخطأ الاعتقاد بأن قيادة المرأة للسيارة “خير محض” أو “شر محض” مهما كانت الأسباب.
من الخطأ المطالبة بأمر معين دون دراسة السيناريو الإجرائي الكامل له وآثاره السلبية والإيجابية على المدى القريب والبعيد.
أيضا من الخطأ الاعتقاد بأن آراء الماضي لايمكن التراجع عنها لأن هذا تراجع عن المبادئ، لأن تقييم الآثار في الماضي مختلف عن تقييمها في الحاضر، وأخيرا من الخطأ بناء القرارات على مجرد الأفكار دون دراسة علمية منهجية مكثفة لكل قرار.
أمتنا من المحيط إلى الخليج تواجه مشكلات كثيرة شديدة التعقيد، ومن الخطأ على الإطلاق _ في رأيي الشخصي _ أن نعالج أيا منها بناء على العاطفة، أيا كان نوع العاطفة أو اتجاهها، أو بناء على ردود الأفعال، مهما كانت قسوة الأفعال الأصلية، وليرحم الله الضعفاء!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية