كثير من الناس يتساءل عن قيمة “العلوم الاجتماعية” والتي تشمل العلوم الدينية والأدبية وعلم النفس والاجتماع وغيرها من العلوم النظرية التي لا ترتبط بأهداف عملية معينة، كما هو الشأن الهندسة والطب والمهن وعلوم الطيران وغيرها.
ويأتي التساؤل بشكل خاص عندما يكون الحديث عن سوق العمل وبطالة خريجي هذه الأقسام وعدم إيجاد الوظائف المتناسبة مع تخصصاتهم.
بل إن الغريب أن هناك من يصرح مطالبا بالتقليل من هذه الأقسام وإغلاق بعضها والتركيز على الأقسام التي استطاع المجتمع أن يوجد لهم وظائف واضحة مرتبطة بتخصصاتهم، وقد أهمل هؤلاء المطالبين بقتل العلوم الاجتماعية ثلاثة أمور رئيسية:
- أهملوا دراسة أثر إغلاق أقسام العلوم الاجتماعية على حياتنا العامة، وهم لا يلامون في ذلك فالأقسام الموجودة ليس لها أثر يذكر، وهذا يجعل الصورة غائبة عنهم.
- أهملوا فهم الكيفية التي يجد من خلالها خريجي هذه الأقسام في الدول الغربية والمتقدمة والآسيوية وظائفا مناسبة لهم.
- أهملوا دراسة الآثار المستقبلية لتكدس آلاف الخريجين من الأقسام العلمية مع ضعف الأقسام النظرية.
- وأخيرا؛ أهمل هؤلاء رغبات الفرد وحريته في اختيار ما يتعلمه.
إن العلوم الاجتماعية بأنواعها تمثل لقطاع كبير من الشباب المتنفس الذي يجدون فيه حياتهم بينما يجدون في العلوم التطبيقية وسائل جامدة تتعامل مع المحسوس ولا تتعامل مع الإنسان والمجتمع والفكر كما هو شأن العلوم الاجتماعية.
إن حياتنا مفقودة منحدرة حضاريا ومزيفة لأسباب متعددة أحدها تخلف العلوم الاجتماعية في عالمنا العربي، فبينما تراجع ارتباطنا بالعلوم الشرعية بسبب عدم تحديث هذه العلوم واستخدامها للغة وأمثلة واجتهادات مرتبطة بعصور ماضية بعيدة جدا، فإن علومنا اللغوية تدور في نفس المشكلة، والأمر نفسه ينطبق على الأدب والدراسات الفنية بأنواعها.
وإذا جئت لعلم النفس والاجتماع فإن ما يدرس في جامعاتنا هو نسخ مقلدة رديئة عن العلوم الغربية، وهي خالية تماما من النظريات والدراسات التي تعالج مشكلات العرب، ومرتبطة بثقافتهم بدلا من الثقافة الغربية التي تختلف عنا اختلافا جذريا.
نحن نعيش حياة متخلفة لأن الباحثين المتخصصين في العلوم الاجتماعية لا يدرسون مشكلاتنا بكفاءة ولا يقدمون لها الحلول المقنعة، وحياتنا مزيفة لأنها دائما مرتبطة بالنماذج العلمية الغربية، وحياتنا مفقودة كذلك لأن علماء التاريخ مازالوا مهتمين بدراسة الحروب الصليبية متناسين توثيق تاريخنا الذي نعيشه كل يوم، بينما علماء النفس لا يجرون دراساتهم لفهم تطوراتنا النفسية ونحن نعايش مختلف الظروف الحضارية القاسية التي نمر بها اليوم.
نحن نحتاج للعلوم الاجتماعية لتطوير حياتنا، كما نحتاجها من ناحية اقتصادية أيضا.
يوجد في أمريكا حوالي 3000 جامعة، حوالي 68% من طلابها من طلبة العلوم الاجتماعية، وطبعا هذا مفاجئ من ناحية لأن ما نعرفه عن حضارة أمريكا أنها حضارة تقنية، لكنه يشرح أيضا أهمية الدراسات الاجتماعية بأنواعها لنمو الحضارة بشكل عام.
ماذا يفعل هؤلاء ملايين الخريجين الأمريكيين كل عام عندما يتخرجوا من أقسام النفس والاجتماع والاتصال والأديان والتاريخ والجغرافيا والمكتبات والاقتصاد وغيرها؟
إنهم ببساطة يلتحقون بوظائف مناسبة جدا في قطاع اقتصادي ضخم تأسس حول هذه العلوم، أكثره قائم على المؤسسات الأكاديمية “جامعات ومعاهد”.
وكيف تحصل هذه الجامعات على الدخل المالي وهي جامعات خاصة؟
من الطلاب الذين يأتون كل عام لدراسة هذه التخصصات.
هناك أيضا مراكز الأبحاث التي تشغل آلاف الباحثين ويأتي تمويلها من الشركات التي تريد الاستفادة من الدراسات لعلاج مشكلات معينة، أو من المنح الخيرية التي تؤمن بدعم البحث العلمي وقيمته لنمو الحضارة والمدنية.
ببساطة هذا القطاع الاقتصادي يتضخم سنويا لأنه مع توفر المزيد من المدرسين، تفتح جامعات وأقسام جديدة، فيزداد الطلاب الذين يتحولون أيضا لمدرسين وباحثين، وهذا يعني توفير المزيد من الوظائف والمزيد من النمو الاقتصادي.
لتسهيل فهم عملية التمويل الذاتي لقطاع العلوم الاجتماعية، دعوني أضرب مثالا أصغر بكثير ولكنه يشرح الصورة بشكل جيد.
في أندونيسيا يوجد حوالي 100.000 مدرسة دينية، خريجي هذه المدارس التي لا تعترف بها الدولة هناك يعملون مدرسين في نفس المدارس، ولذا يزداد عدد هذه المدارس كل عام ويزداد عدد الطلاب، وعندما ضغطت أمريكا قبل عامين على أندونيسيا لإغلاق بعض هذه المدارس، رفضت أندونيسيا ذلك لأن هذا يعني التأثير على قطاع اقتصادي يعمل فيه أكثر من مليوني شخص.
إن حل مشكلتنا يبدأ من أقسام العلوم الاجتماعية في عالمنا العربي نفسها، التي تحتاج أن تفهم دورها الحضاري، وتحتاج أن تنطلق بما يشبه ثورة العلوم الاجتماعية، تعمل على تطوير هذه العلوم وقيمتها في حياتنا وارتباطها بمشكلاتنا نحن، وتبذل كل جهد لتطوير النظريات المتناسبة مع واقع العالم العربي، وتقوم بحملة توعية عامة لأولئك الذين لا يفهمون قيمة العلوم الاجتماعية، ويضعون أيديهم في أيدي خبراء الاقتصاد ليحولوا العلوم الاجتماعية في بلادنا لقطاع اقتصادي منظم.
نحن نحتاجكم فلا تخذلونا..
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية