ما أن انتهت العاصفة التي هبت على أسواق المال العالمية بعد الاندماج المفاجئ لشركتي «أمريكا أون لاين»، أكبر شركة مزودة لخدمة الإنترنت في العالم، وشركة «تايم وورنر»، مالكة محطة CNN وعدد هائل من الشركات الإعلامية المتنوعة، والذي اعتبر العقد الأكبر في التاريخ واللحظة الأولى التي يعلن فيها الإنترنت تفوقه التجاري العالمي غير المسبوق، ما أن ارتاح العالم قليلا من هذه العاصفة حتى قررت أوروبا أن ترسل عاصفتها الاقتصادية غير المسبوقة من نوعها.
في الأسبوع الماضي تم توقيع عقد اندماج بقيمة 190 مليار دولار بين شركة مانيسمان الألمانية العملاقة للاتصالات، وشركة فودافون البريطانية المتخصصة في الهواتف الجوالة، ليتم بذلك تأسيس شركة «فودافون» الأوروبية وتوقيع أغلى عقد عرفه التاريخ.
وإذا كان تأسيس شركة «أمريكا أون لاين تايم وورنر»، قد أثار العديد من التحليلات عن أثر هذا التأسيس على مستقبل شبكة الإنترنت والإعلام بشكل عام، فإن تأسيس شركة «فودافون» جعل كل شركات الاتصالات في العالم تقف على أرجلها مهابة للشركة الجديدة التي تملك حاليا من الإمكانيات ما يرى المحللون أنها ستستطيع ببساطة _ ما لم يواجهها اندماج جديد لشركات اتصالات ضخمة _ السيطرة على أسواق الاتصالات في العالم.
في الواقع تملك شركة «فودافون» حاليا بعد هذا الاندماج 4,42 مليون مشترك في خدماتها، متوزعين على 25 دولة في مختلف أنحاء العالم، بما فيها الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا.
لكن «فودافون» تقول، أن مخططاتها تجعل من هذا الرقم مجرد قاعدة أولية لما تنتظره من جذب مئات ملايين المشتركين في كل دولة حول العالم بدون استثناء، حسب التصريح الصحفي للمتحدث باسم الشركة الجديدة.
ولماذا يمكن أن يحصل هذا الآن؟
ببساطة إنه عصر الأقمار الصناعية والألياف البصرية والإنترنت وحرية التجارة التي مكنت شركات الاتصالات الضخمة في أوروبا وأمريكا من دخول دول كثيرة حول العالم بدون أي عقبات.
حتى يتم تحقيق المزيد من السيطرة، لابد من تطوير تكنولوجي يمكن هذه الشركات من تقديم خدمات الاتصالات عابرة القارات ذات التقنية العالية والسعر الرخيص.
هذا حاليا ما تعمل عليه شركتي IT&T الأمريكية، وTelecom البريطانية، في مشروعهما المشترك «كونسرت»، والذي يعتبر من أكبر منافسي شركة «فودافون»، في السباق نحو غزو قلوب وجيوب المتعطشين للمزيد من الاتصالات في كل دول العالم، بما فيها الصين والهند ذات الكثافة السكانية الضخمة والحدود التجارية المغلقة إلى وقت قريب أمام الشركات العالمية.
لكن مشروع شركة «فودافون» الجديد غير عادي لعدة أسباب جعلت دافيد دورمان، رئيس مشروع «كونسرت»، يسميه بالجوهرة.
واحد من هذه الأسباب أن الشركة الألمانية «مانيسمان»، معروفة باهتمامها الخاص بتطوير تكنولوجيا الهواتف الجوالة على الطريقة الألمانية التي تعشق الإتقان وصناعة الأشياء التي تعيش لعمر طويل وتتميز بالفخامة والجمال، تماما كما هي السيارات الألمانية، كما أن شركة «فودافون» البريطانية، معروفة أيضا بتركيزها على تطوير تكنولوجيا شبكات الهواتف الجوالة بحيث يمكن يوما _ وربما قريبا جدا _ الاستغناء تماما عن الشبكات الأرضية والألياف النحاسية والبصرية ومحدوديتها وتكوين شبكات فضائية تجعل من الاتصال الدولي من التكلفة والسهولة كما هو الاتصال المحلي حاليا.
وقد كانت لشركة «فودافون»، تجربة ناجحة معروفة باسم «إير تاتش»، والتي طورت فيها الهواتف الموجودة على الطائرات الأوروبية والتي يمكن من خلالها الاتصال بالأرض بوضوح وتكلفة غير مرتفعة نسبيا.
شراء «فودافون» البريطانية، لـ«مانيسمان» الألمانية، لم يكن مفاجئا فقصته قديمة جعلت هذا الاندماج من أول الثمرات المتوقعة لتأسيس عملة «اليورو» الجديدة في مطلع العام 1999.
بدأت القصة بعرض من «فودافون» قيمته 95 مليار دولار تقريبا، وطبعا لم يكن من السهل إقناع الألمان المعروفين باعتزازهم الشديد بشركاتهم وتكنولوجيتهم ببيع الشركة، وصارت قضية الضغط على إدارة الشركة الألمانية لمنعها من البيع جزءا من الحملة الانتخابية الأخيرة، حيث أصدر المستشار الألماني، جيرهارد شرودر، قرارا يحذر من تدخل «الغرباء» في النظام الاقتصادي الألماني، وأعلن اتحاد العمال قلقه من العرض وتأثيره على العمال الألمانين ومصالحهم، ثم بدأ السعر يتصاعد حتى وصل إلى 190 مليار دولار، المبلغ الذي أسال لعاب أكثر مالكي الأسهم تشددا وتم الاندماج.
قبل ذلك بفترة بسيطة، حصل اندماج بين شركة «فودافون»، وبين شركة «فيفندي» الفرنسية للإنترنت، والآن مع الاندماج مع شركة «مانيسمان»، تكونت شركة أوروبية اتصالات غير مسبوقة إلى درجة أن بعض المشاعر الوطنية الأوروبية الفخورة بدأت تظهر في تعليقات الناس حول تأسيس الشركة.
ليس ذلك فحسب، بل إن شركة «فودافون»، دخلت حاليا في مفاوضات لشراء شركة «بيرتيلسمان» الألمانية التي تملك 50% من عمليات شركة «أمريكا أون لاين» في أوروبا وأحد أضخم دور النشر في أوروبا، وإذا تم هذا العقد فـ«فودافون» ستمتلك بذلك دار النشر وجزءا من «أمريكا أون لاين» الجديدة والتي يتوقع لها مستقبل إعلامي غير عادي في العقد القادم.
في العالم الثالث يتركز القلق حول العولمة في الثمرات الثقافية السلبية والإيجابية لمشاريع العولمة.
بالنسبة للعالم المتقدم العولمة هي فقط المزيد من العقود الخيالية العابرة للقارات والتي تكون شركات تزيد ميزانياتها عن ميزانيات عدد كبير من دول العالم الثالث مجتمعة، والمزيد من الاندماجات بين الشركات العملاقة الجديدة على الطريق أيضا.
ويبدو أن حكومات الدول الغربية مازالت تنظر بحساسية لهذه العقود الرهيبة، فقد حصلت في فرنسا وإيطاليا في الفترة الأخيرة عدة جهود لمنع اندماجات ضخمة بين بنوك تلك الدول.
ولكن حسب مايقول المحللون الاقتصاديون هذه العقود أثبتت أن أوروبا تعلمت الدرس الأمريكي وبدأت «تمارس التجارة بسرعة الإنترنت».
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية