لم يكن حادث عزل رئيس الوزراء الماليزي، الدكتور مهاتير محمد، لنائبه أنور إبراهيم، حادثا عاديا ككل حوادث التغييرات السياسية الداخلية، فللحدث من الإيحاءات السياسية والاقتصادية الخطيرة حول مستقبل ماليزيا، ما جعله موضع اهتمام قطاعات واسعة في العالم الإسلامي.
هذه القطاعات هي غالبا تلك التي أدهشتها المعجزة الماليزية بكل مكوناتاها الاقتصادية والسياسية والإسلامية، والتي كانت تنظر للإدارة الماليزية التي يرأسها مهاتير محمد، ونائبه أنور إبراهيم، بالكثير من الإعجاب بحكم أن الأول متميز ببعد نظره الاقتصادي، وبحكم الخلفية الإسلامية للثاني، وما يجمعهما من رؤية سياسية واقتصادية معتدلة وانسجام في إدارة ماليزيا.
هذه القطاعات نفسها أصابها إحباط شديد للطريقة التي تم بها «طلاق» الإثنين، لقد كانت الخلافات في وجهات النظر بعد الأزمة الاقتصادية التي مرت بها ماليزيا أمرا معروفا بين مهاتير، وأنور، لكن أحدا لم يتوقع أن تنتهي بهذه الطريقة التي لا يستطيع أحد أن يرى عواقبها وآثارها السلبية على ماليزيا بعد.
في ما يلي محاولة لاستكشاف جذور المشكلة والأطراف التي عنيت بشكل واضح في إحداث الخلل بين مهاتير، وأنور إبراهيم، لحساب مصالحها الشخصية، وما يمكن أن يتركه ذلك من آثار على ماليزيا.
مصدر معلومات هذا الموضوع شخصية ماليزية مرموقة سياسيا وفكريا أراد ألا يذكر اسمه تجنبا للدخول في الإشكالات المحيطة بالقضية، وهذه الشخصية قريبة بشكل خاص من أنور إبراهيم، بحكم المنصب الرسمي وبحكم التقارب الفكري.
هذا السطور كُتبت على أساس أن أنور إبراهيم، برئ تماما من كل ما نسب إليه من اتهامات بالعمالة، والعلاقات الجنسية المحرمة، وذلك ليس تعصبا له لأن كل إنسان معرض للخطأ، ولكن لأن المؤمن برئ من كل قذف حتى يثبت ذلك، ولأن أنور إبراهيم، عرف على نطاق واسع باستقامته الشخصية التي ترقى به عن مثل هذه الاتهامات، ولأن خيوط القضية تبين أن هناك مؤامرة حقيقة حيكت حول مهاتير محمد، وأنور إبراهيم، للوصول إلى هذا الوضع الحالي، ومع ذلك فسنتجنب تماما الوصول لاستنتاجات انفعالية، بل سنتكفي بعرض الحقائق وفصول الأحداث كما هي.
«رسائل قلم السم»، هو ترجمة حرفية لمصطلح سياسي معروف في ماليزيا يعبر عن تلك المنشورات السياسية التي يوزعها أحد الأطراف في الساحة السياسية على نطاق واسع عندما تدخل العداوة بينه وبين طرف آخر مرحلة لا عودة فيها إلى الصلح.
منذ أن تولى مهاتير محمد، الحكم، والتناسق السياسي في إدارته على مستوى جعل مثل هذه الرسائل قليلة الاستعمال نسبيا، إلا أن أكثر هذه الرسائل القليلة عنفا وزعت في منتصف العام الماضي 1997 مستهدفة أنور إبراهيم، نائب رئيس الوزراء ونائب رئيس حزب الحاكم «أمنو»، وخلف د. مهاتير محمد، كما أعلن مهاتير، نفسه.
هذه الرسالة، كما كان واضحا لكل قراءها، استهدفت منع أنور إبراهيم، من تولي رئاسة الوزراء من خلال الهجوم عليه مباشرة، وذلك ليسمح لآخرين باستعادة فرصهم في الحصول على هذا المنصب بعد أن صعد أنور إبراهيم، بعبقريته السياسية وأفقه الاقتصادي الذي نال إعجاب مهاتير، وليقربه إلى منصب نائب رئيس الوزراء من حيث لا يتخيل أحد في الحزب، وخاصة أن أنور، معروف بتوجهه الإسلامي وأنه قاد حركة الشباب المسلم الماليزي “أبيم”، لفترة من الزمن إلى أن سجن بسبب معارضته الشديدة لنظام الحكم عام 1974.
كان الجميع حول مهاتير، يتوقعون أن تولية أنور إبراهيم، منصبا وزاريا في مجلس الوزراء هو محاولة سياسية ذكية لكسب التيار الإسلامي الأكثر تشددا في ماليزيا، لكن أحدا لم يتوقع قفزة أنور، إلى وضع رئيس الوزراء القادم.
لأنه يكاد من المستحيل الهجوم على أنور، من الناحية السياسية والاقتصادية بحكم أن حنكته ستساعده على إسقاط كل هجوم نحوه استعمل في تلك الرسالة الهجوم على أخلاقيات أنور إبراهيم، واتهامه بـ«الخيانة الزوجية».
الشرطة الماليزية المعروفة بأن قادتها ليسوا من المحبين لأنور، بدؤوا مباشرة في التحقيق في القضية إلى أن وصلوا حينها لطريق مسدود، فيما كان مهاتير، علنا يطلب من أنور إبراهيم، تجاهل مثل هذه الاتهامات «المتوحلة» وعدم الانشغال بها عن مصالح الأمة الماليزية، ولم يكن لأحد حينها أن يصدق القصة لمصداقية أنور إبراهيم، العالية وسط المجتمع الماليزي.
لكن أصحاب المصلحة وراء تلك الرسائل لم يتوقفوا عند ذلك.
في الأيام الأخيرة من شهر يونيو الماضي وقبل أيام من الاجتماع السنوي لحزب «أمنو»، وزعت رسالة «قلم سام» بحجم كتاب عنوانها «50 سببا تبين لماذا لا يمكن أن يكون أنور إبراهيم رئيس الوزراء القادم».
خلافا لكل المتعارف عليه سابقا في رسائل القلم السام، هذه الرسالة كان لها كاتب وناشر.
الكاتب كان خالد جفري، محرر رياضي سابق ورئيس تحرير لجريدة إثارة ماليزية معروفة.
قبل يوم من اجتماع الحزب صدر أمر قضائي أعلى بمنع توزيع الكتاب لما فيه من قذف مخالف للشريعة الإسلامية.
لكن ضيوف المؤتمر السنوي جميعا تلقوا شنطهم التي تتضمن وثائق المؤتمر عند دخولهم للاجتماعات وفي كل شنطة نسخة من الكتاب.
هذا أثار الغضب الشديد لأنصار أنور إبراهيم، داخل الحزب، والذين بدؤوا في التحقيق في الموضوع في اليوم نفسه ليكتشفوا أن ذلك تم بتدخل أحد الأشخاص في سكرتارية المؤتمر دون علم الباقين، ولينتبهوا أن دار النشر مملوكة لرئيس وزراء مقاطعة مالقا الماليزية السابق ذو السمعة السيئة عبدالرحيم تشيك، وزوجته زبيدة عبدالله، واللذين يتصلان بقرابة مع السكرتير العام للحزب، صبر الدين تشيك.
نيجري سيمبلان، المسؤول عن قيادة شباب حزب «أمنو»، استجوب الشخصين عن الموضوع.
عبدالرحيم تشيك، قال بأنه سيصدر تصريحا صحفيا يعبر عن وجهة نظره، بينما قال صبر الدين، بأن الكتاب ربما وزع من خلال أحد الموظفين ووعد بالتحقيق في ذلك.
لما سئل نائب وزير الداخلية، تاجول رسلي، عن الموضوع، قال أولا يجب أن نتأكد أن الكتاب وضع في الحقائب قبل صدور أمر المحكمة أو بعد صدوره.
قائد الشرطة، عبدالرحيم نور، طلب منه أن يأخذ قرارا تجاه قيام بعض الجهات ببيع الكتاب في ماليزيا تنفيذا لقرار المحكمة لكن قائد الشرطة، قال أنه يجب أن يتلقى أولا شكوى رسمية.
هذه الردود جعلت سميبلان، وغيره من أنصار أنور إبراهيم، في الحزب، يشعرون بأن هناك مؤامرة ضخمة بين هذه الأطراف وغيرها، ولذلك طالب سيمبلان، في المؤتمر بصراحة باستعمال قانون «الأمن الداخلي» ضد هذه الأطراف التي تهدف لخلق نزاع بين مهاتير، وأنور إبراهيم، في وقت تواجه فيه ماليزيا أزمة اقتصادية.
مهاتير، رفض ذلك قائلا بأن هذا القانون يستعمل ضد المخدرات والجرائم الخطرة وضد الشيوعيين، وأحال مطالب سيمبلان، وغيره، بعقاب كل من له علاقة بنشر الكتاب من أعضاء الحزب للجنة التأديب وإدارة الحزب.
لكن مهاتير، قال حينها «نريد أن نعرف من فعل ذلك ولماذا فعله وإذا ما كان لذلك أي أساس من الصحة وإذا ما كان للناشر أي علاقة بالموضوع».
العبارة كانت مفاجأة لأنصار أنور إبراهيم، لأنهم لم يروا فيها استنكارا من مهاتير، للإساءة لصاحبه، بل رأوا فيها بدأية تأثر وإحساس بأن الكتاب قد يكون له أساس من الصحة.
في الاجتماع هاجم أصدقاء أنور، ومنهم سيمبلان، مهاتير، وسياساته والفساد في الحكومة، إلا أن مهاتير، رد بالتذكير أن أصدقاء أنور إبراهيم، استفادوا أيضا من بعض عقود الحكومة وبعدها سكت الجميع إلا أن مهاتير، كان غاضبا بشكل واضح لم يستطع كتمانه.
بعد شهر، أرسل مجلس الشيوخ الماليزي «ديوان نيجارا» تساؤلا لمهاتير، حول الإجراءات التي اتخذت ضد الكتاب ونشره فأجاب مهاتير، «إنه من الصعب على الحكومة أن تمنع تماما طبع ونشر كتب مثل هذا الكتاب. طبعا يمكننا أن نتخذ اجراءات أشد لو أحسسنا أن الكتاب يهدد سلامة وأمن وأخلاق الشعب»، وكانت مفاجأة أخرى للجميع أن مهاتير، لا يعتقد أن الكتاب يمثل أي من هذه الأخطار، لقد بدأ يتضح للناس أن مهاتير، لم يكن ينوي أن يقف تماما في وجه كتاب يغتال سمعة نائبه وخليفته من بعده أنور إبراهيم، حتى لو أكد قاضي المحكمة العليا لكوالالمبور، الحاج محمد نور بين حاج أحمد، أن الكتاب مجرد «رسالة قلم سام على شكل كتاب».
لكن أنور إبراهيم، نفى تماما أن يكون مهاتير محمد، وراء الحملة ضده: «أعتقد أنهم أناس آخرون لهم مصالح أخرى والذي يحاولون بث الشك في عقل د. مهاتير، ولخلق النزاع بيننا، أهدافهم شخصية وضيقة ولكنهم حقيقة يؤثرون على تطور ونمو بلدنا، لقد اتفقنا منذ زمن طويل وأعلنا ذلك لكل الناس أنه لن يكون هناك أي تنافس بين المنصبين الأولين في الدولة، إنهم دائما يحاولون إقناع د. مهاتير، أنني سأحاول تحديه وإبعاده من قيادة ماليزيا، بناء على موقفي الصريح فأنا لا أظن أنني أحتاج أن أكررها أكثر مما يجب، لكن بعض الناس مازالوا يحاولون بث الفتنة، ولذا أعلن بكل وضوح ومرة أخرى أنه لا هدف لدي بأي شكل من الأشكال لتحدي قيادة د. مهاتير، إنني أعلن دعمي الكامل وولائي للدكتور مهاتير محمد، كقائد لحزبنا وأمتنا».
كانت هذه العبارات من أنور إبراهيم، محاولة يائسة، فيما استطاع هؤلاء الخصوم بالتوصل إليه فعلا في إقناع مهاتير، بلا كلل أن أنور إبراهيم، سيتحداه في الانتخابات المقبلة مستغلا شعبيته الواسعة وسط حزب «أمنو»، وبين الماليزيين، لإسقاطه من رئاسة الحزب وبالتالي من رئاسة ماليزيا.
ألقى أنور إبراهيم، هذه العبارات في 11 أغسطس بحضور مهاتير، في حفل افتتاح الفرع الجديد للحزب في بلد أنور إبراهيم، بينانج.
في الحفل عبارات استعطاف واضحة لمهاتير، «د. مهاتير، ليس قائدا جديدا، وهو يملك خبرة واسعة في كل الشؤون، لو قارنتموني به فستجدونني فقط كتلميذ، أنا لا يمكن أن أعمل ضد أستاذي، فضلا عن والدي، نحن ربما كان لدينا بعض الاختلافات لكن من المستحيل الاعتقاد أن هذه الاختلافات البسيطة ستفرق بيننا، عندما يأتي الأمر للقضايا الهامة بما فيها القضايا الاقتصادية نحن نعمل متحدين».
ثم أعلن ترشيح الولاية رسميا لمهاتير محمد، لرئاسة الحزب.
خطاب أنور، أثار عاصفة من التصفيق بين أنصار حزب «أمنو»، والذين كانوا مليئين حتى أنوفهم بالإشاعات عن الانفصال في قيادة الحزب.
في اليوم التالي مباشرة، قامت الشرطة بالقبض على مؤلف الكتاب وإيداع السجن بتهمة نشر أخبار فيها قذف لأنور إبراهيم، بأنه أب لولد من أمرأة مذكور اسمها في الكتاب.
المؤلف خرج في اليوم نفسه بكفالة مالية، وحددت المحكمة يوم 7 ديسمبر موعدا لمحاكمة المؤلف.
طبيعة التهمة تتطلب عقوبة ضد المؤلف بسجن أقصاه ثلاث سنوات وغرامة أقصاها 4,850 دولارا أمريكيا تقريبا.
لكن الشرطة أعلنت أنها ستستمر في التحقيق في محتويات الكتاب، وبدؤوا فعلا بما يذكره الكتاب بأن الشخصي الذي كان يحضر العاهرات لأنور إبراهيم، هو نالا كاروبان، عضو «المجلس الهندي الماليزي» المنافس لحزب «أمنو»، وأحد مسؤولي شركة «ماجنوم» الماليزية الكبرى.
في نفس اليوم 12 أغسطس، تم القبض على نالا، لأنه قبل أسبوعين من ذلك تم اقتحام منزل نالا، ليجدوا فيه 125 مشطا من الرصاصات الحية بدون إذن قانوني وبدون أسلحة.
تم مباشرة اعتقال نالا، تحت قانون «الأمن الداخلي» الذي ذكر من قبل أنه يستعمل فقط للجرائم التي تهدد أمن الدولة والتي يعاقب أصحابها بالإعدام.
نالا، رفض الدعوى وستحصل محاكمته في يوم 9 نوفمبر القادم.
كان من الغريب أن اعتقال نالا، حصل بعد أسبوعين من اكتشاف الرصاص وبعد أمر مهاتير، باعتقال مؤلف الكتاب، وهي الفترة التي يعتقد بين أنصار أنور إبراهيم، أنه بذلت محاولات مستحيلة من المدعي العام في الشرطة للحصول على اعترافات منه تضر أنور إبراهيم، مقابل الإعفاء عنه، لكن رفض نالا، لذلك جعله ينتهي في السجن تحت تهديد الإعدام.
المحكمة أمرت بسجن نالا، في سجن للحجز المؤقت، لكنه في اليوم التالي مباشرة أمر بنقل نالا، لسجن «بوكيت أمان» والملحق بمركز الشرطة، وذلك «بغرض التحقيق معه في شؤون تهم أمن الدولة».
هذا التصرف من الشرطة أوحى للناس في ماليزيا أن الشرطة تحاول بذل المستحيل لإثبات بعض ادعاءات الكتاب حتى يمكنها أن تخفف العقوبة عن مؤلف الكتاب في محاكمته القادمة.
كيف أمكن للمغرضين حول مهاتير، إقناعه بأن أنور إبراهيم، ينوي بالفعل القضاء عليه كقائد لماليزيا؟
من المعروف للجميع في الأوساط الماليزية السياسية أن مهاتير، كان على قناعة غير محدودة أن انهيار الاقتصاد الماليزي تم بمؤامرة كبرى قادتها أمريكا أو بمعنى أصح القوى الصهيونية داخل أمريكا بقيادة جورج سوروس، رجل الأعمال الأمبراطوري الأمريكي.
لم يكن مهاتير، يؤمن أبدا بما يراه غيره من حوله ومنهم أنور إبراهيم، أن هناك أسباب أخرى للانهيار ساعدت على ذلك منها سياسة البلد الاقتصادية الداخلية والتي فيها بعض الفساد الداخلي، وإعطاء قروض بلا ضمانات، وبناء مشاريع ضخمة لا حاجة فعلية لها مثل بناء أطول بناية في العالم، وأضخم مطار في العالم، والمركزية في حكم الدولة.
أنور إبراهيم، بعد الأزمة ارتكب خطأ «سياسيا» لكونه شعر بأن صداقته مع مهاتير، تسمح له أن يظهر معارضته له، ولذا مضى أنور، معارضا صريحا لمهاتير، في السياسة الاقتصادية بلا توقف مطالبا بإعطاء القروض فقط لمن يثبت قدرته علي الإنتاج وليس لمن لهم علاقات خاصة داخل الدولة، وبالتقليل من المركزية في إدارة اقتصاد البلاد والتركيز على إعطاء الضمانات الاجتماعية للفقراء بدلا من المشاريع الضخمة الدعائية.
أيضا عارض أنور إبراهيم، مخطط مهاتير، لتثبيت قيمة العملة الماليزية ومنع التعامل فيها في الأسواق الدولية من خلال الإعلان عن منع إدخال العملة الماليزية إلى ماليزيا بعد الأول من أكتوبر، مما سيحضر مبلغ 26.5 مليار دولار نقدا لماليزيا ومما سيساعد على تخفيض أسعار الفائدة في ماليزيا دون التأثير على العملة.
أنور، عارض كل ذلك، قائلا أن سحب النقد الماليزي وتراكمه في ماليزيا سيؤدي للتضخم وأن الحل هو الإصلاح الداخلي والمزيد من الانفتاح على العالم، الأمر الذي ضايق مهاتير، طبعا ألا يرى نائبه يقف معاه في سياساته الاقتصادية في هذه الظروف الصعبة.
مهاتير، كما يعرف الجميع من حوله أيضا تركت الأزمة عليه آثارا نفسية عميقة وهو يرى المعجزة الماليزية التي قدم كل عمره في بناءها تنهار في أيام قصيرة، وليس سرا أن مهاتير، حصل على بعض العلاج النفسي من آثار هذه الأزمة.
بالرغم من ذلك، كان من الصعب إصدار قرار بعزل أنور إبراهيم، من وزارته للمالية التي يجمع بينها وبين نيابة رئيس الوزراء، لأن هذا سيثير قلق المستثمرين الأجانب في ماليزيا الذين يعرفون أن أنور، صمام أمان لهم بسبب عقلانيته وتمهله في قراراته مما يعني المزيد من الانسحاب من الاستثمار في ماليزيا وبالتالي المزيد من الانهيار في الاقتصاد الماليزي.
في الحقيقة، مهاتير، بذل محاولة للالتفاف على ذلك وإن كانت بالفعل أضرت بالاقتصاد الماليزي، لأن الجميع فهم غرضها وذلك حين أسس مؤخرا «مجلس الاقتصاد الوطني» لتخطيط اقتصاد ماليزيا بعيدا عن أنور إبراهيم، كما عين صديقه الحميم الملياردير دايم زين الدين، وزيرا للمهام الخاصة، موكلا إليه مهاما اقتصادية رئيسية، وتقول الشائعات أن أنور، أراد الاستقالة احتجاجا ولكنه لم يفعل حتى لا يعطي لحساده فرصة الانتصار.
المغرضون من حول مهاتير، رأوا في ذلك فرصة لا تتكرر، فركزوا على قضية واحدة خطيرة محورها: أنور إبراهيم جزء من المؤامرة العالمية ضد ماليزيا!!
أول دليل على ذلك مطالبة أنور، الدائمة باعتماد قوانين شد الحزام اقتصاديا، وهي نفسها طريقة صندوق النقد الدولي في حل المشكلات الاقتصادية، ولذا قيل لمهاتير، أن أنور، متآمر مع صندوق النقد الدولي الذي يعتقد مهاتير، أنه كان وراء تدمير الاقتصاد الآسيوي عموما والماليزي والأندونيسي خصوصا.
قبل أسبوعين بالفعل، وجه مهاتير، التهمة نفسها لحاكم البنك المركزي أحمد محمد، دون بأنه متآمر مع صندوق النقد الدولي لمطالبته المستمرة بقوانين شد الحزام والإبقاء على قوانين الاقتصاد المفتوح، ربما تأثرا بصديق الحاكم أنور إبراهيم.
التهمة أغضبت الحاكم ونائبه وجعلتهما يعلنان استقالتهما.
بالطبع كون أنور إبراهيم، يتخذ مقاييس اقتصادية مشابهة للمقاييس الأمريكية ولكونه يعرف كيف يتعامل مع الإعلام العالمي، قامت مجلة التايم، ونيوزويك الأمريكيتين الشهيرتين، بتصوير أنور إبراهيم، على أنه أمل ماليزيا الاقتصادي القادم، كما وضعت مجلة التايم، صورة أنور إبراهيم، على غلافها، وصورته جريدة «وال ستريت جورنال» الأكثر توزيعا في أمريكا، ومحطة CNN، بشكل مشابه.
يقال أن هذا أغضب مهاتير، الذي رأى أنور، يسرق الأضواء منه، وأعطى أعداء أنور، الفرصة لتصوير الأمر وكأن أنور رجل تتبناه أمريكا وتريده مكان مهاتير، في أقرب وقت ممكن.
عدة وسائل إعلامية ماليزية تتبع حزب «أمنو»، تناقلت نفس الأفكار، فأعلن مهاتير، استبدال رؤساء تحريرها بالإضافة لمدير التلفزيون الماليزي “القناة الثالثة”، «لأن أدائهما في الأزمة ليس أحسن من الإعلام الأجنبي».
أيضا؛ هؤلاء أدركوا ورطة مهاتير، في عدم قدرته على عزل أنور، لسبب سياسي أو اقتصادي، فعرفوا أن خير حل هو اختراع حل عالمي لا يبدو له أي علاقة بالاقتصاد: الممارسات غير الأخلاقية.
هذا بالفعل ما ركز عليه الكتاب أيضا، فأول حجة يحاول الكتاب تبرريرها أن أنور إبراهيم، عميل للمخابرات الأمريكية!.
الكتاب ادعى أن أنور إبراهيم، لا يصلح لرئاسة الوزراء، وأن الذي يصلح نائبا لمهاتير، وخلفا له هو وزير الخارجية الحالي عبدالله بدوي، والذي كانت فعلا تتناقل الشائعات غير محددة المصدر في كوالالمبور أن أنور إبراهيم، سيطرد وسيعين مكانه عبدالله بدوي، لكن يبدو أن مهاتير، لما رفض فحوى هذه الشائعة تم نشر هذا الكتاب والذي يرشح بدوي، للمنصب، ولذا يظن بشكل واسع أن بدوي وراء خيوط هذه المؤامرة.
أىضا؛ يقال أن مهاتير، رأى تماما ما حدث لأسرة سوهارتو، من بعد عزله، وكان خائفا على المصالح التجارية لأبناءه والذي كان يبحث عمن يحمي مصالحهم من بعده، ولذا بدأ يبحث من حوله لكن هؤلاء المغرضين قالوا له بأن أنور إبراهيم، الذي يطالب تماما بالقضاء على كل خيوط الفساد في الدولة، لن يكون الشخص الصالح تماما لتنفيذ هذه المهمة أو لنقل سيكون أول شخص يقضى على هذه المصالح تماما، هذا أخاف مهاتير، بلا شك إن كان صحيحا.
التفكير في الموضوع قد يعطي للشخص الإيحاء بأن وراء كل ذلك أناس أكبر من مهاتير، وأنور، ربما كانوا تماما هؤلاء الذين يخافهم مهاتير، ويعتقد أنه يغضبهم وجود حكومة مستقلة قوية ذات حس إسلامي في ماليزيا.
هؤلاء ربما كانوا يديرون خيوط اللعبة من الخارج ويريدون إيصال أشخاص معينين لا يستطيع أحد التنبؤ بهم تماما الآن حتي ينفذوا أهدافهم.
هذه نظرية «مؤامرة» جديدة لتعليق هذه المأساة السياسية على شماعة آخرين وقد تصح وقد لا تصح.
أيضا؛ تقول نظرية أخرى أن عددا من رجال الأعمال الكبار في ماليزيا والذين استطاعوا بسبب صداقاتهم أن يحققوا صفقات غير قانونية ويخافون من خسرانهم لهذه المكاسب إذا تولى أنور إبراهيم، رئاسة الوزراء، يقفون وراء هذه المؤامرة.
النهاية كما يعرف الجميع عزل أنور إبراهيم، من نيابة رئاسة الوزراء، بعد أن بقي خمس سنوات نائبا لرئيس الوزراء وهي أطول فترة دام فيها نائب لرئيس الوزراء لمهاتير، ثم طرده من حزب «أمنو»، وأخيرا تهديده بالاعتقال لو ثبت أي من الاتهامات الأربع الموجهة رسميا ضده في المحكمة من طرف الشرطة.
هل من الصعب إثبات الاتهامات؟
لا أحد يعتقد ذلك إذا صح أن بعض قادة الشرطة تبنوا بالفعل أمر الحصول على هذه الأدلة مهما كلف الثمن وخاصة _ على سبيل المثال _ أن ماليزيا مليئة بالعاهرات من النساء ومن الشاذين الرجال والذين لن يمانعوا بالشهادة ضد أنور إبراهيم، مقابل مبلغ صغير من المال، والكتاب يذكر أن كل العاهرات كانوا من الصينيات والمكسيكيات غير المسلمات وهؤلاء منهن كثير في ماليزيا.
بالمقابل؛ أنور، يقول أنه يستطيع إثبات المؤامرة أمام المحكمة، هذا قد يكون صحيحا لو استطاع الحصول على محاكمة لأن قانون «الأمن الداخلي» يعطي الدولة الصلاحية لأخذ إجراءات عقابية دون محاكمة.
ما حدث حتى الآن أمام المحكمة وجود رجل ادعى أنه مارس اللواط مع أنور إبراهيم، 15 مرة، وسائقه السابق الذي ادعى أنه أحضر له عددا من الفتيات المكسيكيات والصينيات، وعاهرتان قالتا أمام المحكمة أنهن مارسا الجنس مع أنور، والذي أخبرهن بعد ذلك بأسرار وطنية تحت تأثير النشوة.
كما تدعي الشرطة أن لديها وثائق تثبت أن أنور، استلم حوالي 16 مليون دولار أمريكي نقدا أثناء حملته الانتخابية عام 1995.
الغريب أن أنور، كان يتوقع ذلك منذ فترة طويلة، حتى أنه استأجر بيتا منذ ثلاثة أشهر وجهزه لنفسه لأن البيت الذي يسكنه ملك للحكومة، وبالفعل، فمبجرد صدور قرار فصل أنور إبراهيم، قطعت الكهرباء والماء عن بيته حتى يخرج منه.
المطلعون على الأوضاع الماليزية يؤكدون أن الشعبية الطاغية لأنور إبراهيم، ربما تخلق أزمات كبيرة في ماليزيا بين جمهور الشباب المحب والمؤيد لأنور إبراهيم، وبين الحكومة الماليزية، وهو السيناريو الذي لا يتمنى أحد أن يحصل.
في الحقيقة بدت بوادر تلك المواجهة منذ أول يوم حين تجمع مئات الشباب على باب بيت أنور، حين عزل من نيابة رئاسة الوزراء، وحينها طالب أنور، الجميع بالهدوء والالتزام بالقانون قائلا: «أرجوكم إذا رأيتم الشرطة يقبضون علي فلا تتعرضوا لهم إنهم فقط يؤدون ما طلب منهم».
بعدها بساعات وجهت 15 منظمة وحزبا معارضا خطابا لمهاتير، يهاجمونه فيه ويتساؤلون فيه عن سبب عزل أنور.
فاضل نور، رئيس الحزب الإسلامي وعضو البرلمان الماليزي وحاكم المقاطعة الوحيدة في ماليزيا التي طبقت الشريعة الإسلامية والذي اصطدم بحدة مع مهاتير، اتصل بأنور، ليقول له: «لقد قلنا لك ذلك»، يعني أنه حذره أن دخوله مع «أمنو»، لن يحقق هدف أنور، حينها في «الإصلاح من الداخل».
بعدها بأيام تجمع حوالي 2000 شخص حول مبنى الحزب حين كان مصير أنور إبراهيم، سيناقش في الحزب والذي عبروا عن صرخات التشجيع حين دخل أنور إبراهيم، مقر الحزب.
في ذلك الاجتماع عزل أنور، الأمر الذي جعل الجموع ترمي بالأوراق والسجائر على مهاتير، عند خروجه من المبنى، وليلقوا بالكثير من الشتائم على باقي قادة «أمنو».
بعد ذلك بدأت مسيرة تلو الأخرى حتى يومنا هذا وفي أحدها حمل أنور، على الأكتاف مصاحبا بصرخات «الله أكبر»!
خلال الفترة الأولى، التزم أنور، بالهدوء مستعطفا مهاتير، بعدة تصريحات، إلا أن التشجيع الشعبي كما يبدو غرر أنور إبراهيم، ليأخذ تصرفات أكثر حدة حين أعلن أنه سيقوم بجولة في أنحاء ماليزيا للدعوة للإصلاح الاقتصادي وربما سينضم لأحزاب المعارضة خاصة الحزب الإسلامي إذا لم يتم اعتقاله، الأمر الذي بدا لمهاتير، وكأنه أمين ريس، جديد يحاول إسقاط سوهارتو، بنفس الطريقة، لكن أنور، يرد بأن أندونيسيا ليست ماليزيا ولكل ظروفه، والغريب أن الرئيس الأندونيسي الجديد بحرالدين حبيبي، اتصل بأنور، ليعبر له عن أمنياته الطيبة.
أخيرا؛ أعلنت حركة الشباب المسلم الماليزي «أبيم»، والتي كانت قد غضبت في السابق من أنور، لكونه انفصل عنها وانضم لـ«أمنو»، أنها ستناصره حتى أخر لحظة، وأنه حتى لو سجن أنور، فستسمر في جولته التي يعتزمها حول ماليزيا مطالبين بإصلاح الاقتصاد.
الكثيرون يعتقدون أن اعتقال أنور إبراهيم، سيتم بعد مغادرة الصحفيين الأجانب لماليزيا والذين جاؤوا لتغطية وقائع بطولة دولة الكومنولث الرياضية.
في المؤتمر السنوي الأخير للاتحاد الإسلامي لأمريكا الشمالية ISNA، عبر سكرتير ISNA، عن قلقه العميق على مستقبل ماليزيا وعلى أنور إبراهيم، ومهاتير محمد، مطالبا كل محبي ماليزيا ومهاتير، وأنور، أن يكتبوا رسائل للسفارة الماليزية في واشنطن يعبروا فيها عن هذا القلق.
نفس الأمر عبر عنه الدكتور علي المزروعي، أحد أهم العبقريات الأمريكية في مجال الدراسات الثقافية، والذي عبر عن تكدره الشديد لما يحدث في ماليزيا.
الكثيرون يحسون بالقلق نفسه والأيدي ترتفع بالدعاء أن يغلق السيناريو بمشهد أخير يمثل نهاية حسنة لصالح ماليزيا والمسلمين فيها.
خمسون سببا لعزل أنور إبراهيم!!
ترى ما هي الأسباب الخمسين التي تجعل أنور إبراهيم، غير صالحا لرئاسة الوزراء؟
الكتاب كتب بطريقة ماهرة جدا فيها الكثير من الحنكة والذكاء والقدرة على ربط الأحداث التافهة ببعضها لإثبات ما يريد الكتاب إثباته.
الكتاب يبدو كقنبلة عنقودية من خمسين قنبلة صغيرة ألقيت جميعا دفعة واحدة لعل واحدة منها تصيب الهدف.
بعض الأسباب يبدو غريبا مثل أن كلمة «أنور»، معناها «أن وار»، أي حرب في الإنجليزية وهو دليل تشاؤم، وأن الحكمة الصينية تقول أن من لديهم جبهة مسطحة كأنور إبراهيم، لا يصلحون لقيادة الشعوب.
أيضا يقول الكتاب بأن أنور، بعيد عن الثقافة الماليزية بناء على صورة يأكل فيها مستعملا العيدان الصينية.
أحد الأسباب أنه رجل بلا كرامة لأنه لم يستقيل حين أسس مهاتير، «المجلس الاقتصادي الوطني» برئاسة دايم زين الدين، لتوجيه الاقتصاد الماليزي.
أسباب أخرى تتضمن أخذ الرشاوى والفساد و«الطمع»!
هناك أسباب دينية منها تعامله بالربا لأنه وافق على التعامل مع صندوق النقد الدولي الذي يتعامل بالربا متناسيا أنه كان شخصية إسلامية، ولذا فهو فقط شخص يستخدم الدين لأغراضه الخاصة.
بعض الأسباب موجه لأعضاء «أمنو»، مدعيا بأن أنور، سيطرد كل خصومه من الحزب وأنه سيملأ الحزب بأعضاء حركة الشباب المسلم الماليزي «أبيم»، التي رأسها في السبعينات الميلادية وأنه سيغير صيغة الحزب إذا صار قائدا له.
أنور، حسب الكتاب، رجل بلا أفق ضعيف التعليم لأنه لم يتعلم في الغرب، رغم أن الكتاب يتهمه بالعمالة.
الكتاب يتهمه أيضا بأنه شخص غير أخلاقي، له الكثير من الخيانات الجنسية وشاذ جنسيا حيث مارس اللواط مع أحد الأشخاص 15 مرة!.
ويقول الكتاب أن أحد العاهرات أخبرت بأن أنور، أحضرها لكنه لم يستطع فعل شئ لأنه عاجز!!
أيضا الكتاب يدعي أن هناك علاقة لأنور، مع زوجة مساعده أزمين علي، وأن والد ولدها الأخير، وهذه إشاعة روجتها صحيفة المؤلف من قبل وقد سارع أنور، حينها بإجراء اختبارين DNA، في ماليزيا وفي الخارج لإثبات أن والد الطفل هو أزمين علي، وهو ما أثبتته الاختبارات بالفعل.
الكتاب يقول أن سائق أنور إبراهيم، السابق، ادعى أنه كان دائما يحضر لأنور، الفتيات الصينيات والمكسيكيات واللاتي كان يعرفهن صديقه نالا.
الكتاب يدعي أن أنور، ينوي الانتقام من مهاتير، لأنه كان قد سجن عام 1974 كنشط إسلامي لمدة عامين، بينما كان مهاتير، حينها وزيرا للتعليم.
كما يدعي الكتاب أن أنور، يكره المخلصين للحزب مثل عبدالله بدوي، وعبدالرحيم تشيك، ودايم زين الدين، وموسي حسن، مسؤول الشرطة الذي تولى رفع الدعوى ضد أنور إبراهيم، ويتولى جمع الشهود حاليا، وغيرهم.
أيضا يدعي الكتاب طبعا أن أنور، عميل المخابرات الأمريكية الأول في ماليزيا!!
الكتاب أخيرا يختتم بالإدعاء أن عم أنور إبراهيم، كان قد نصح مهاتير، قبل وفاته ألا يعين أنور، رئيسا للوزراء وأن يعين فقط عبدالله بدوي، أو سنوسي جنيد، رئيس وزراء ولاية كيداه حاليا.
* نُشر في جريدة المسلمون الدولية