جزء من المعاناة اليومية الحقيقية للمواطن العربي هو ضعف مستوى الطبيب الذي يقدم له العلاج، وتكون حياته وسعادته الصحية، وسعادة أطفاله وأحبابه بين يديه.
هذا الشخص الذي نعتمد عليه كثيرا في البقاء، وندفع له كثيرا من المال، ونقدم له الكثير من الاحترام، ويحظى بتعامل خاص على المستويات الرسمية، عندما يكون ضعيفا وغير قادر على القيام بمهنته، أو يكون خائنا لها، أو متساهلا في القيام بمسؤولياته، تتحول الحياة إلى قلق من المجهول الذي قد يباغتك في أي وقت كما باغت غيرك، عندما ابتلاهم الله بأمر، ثم جاء الأطباء ليمارسوا كل أنواع الأخطاء والإهمال، وكانت النتيجة مريعة.
إذا كنت مريضا بالزكام فغالبا ستجد الطبيب الذي يكتب لك وصفة مليئة بالأدوية التي تصرف من صيدلية المستشفى نفسها، وأحد هذه الأدوية سيستطيع الانتصار على مرضك، ولكن لو تجاوز مرضك الزكام، إلى الصداع أو آلام الظهر مثلا أو أكثر لا سمح الله، فأنت أمام مخاطرة، وعليك أن تعرف حقيقة أن غيرك كثيرين قد ذهبوا لهذا الطبيب أو ذاك، وبعضهم لم يتلق العلاج اللازم، بينما بعضهم دفع الثمن غاليا، وكلنا نعرف أشخاصا فقدوا أطفالهم أو أقاربهم بسبب إهمال طبيب أو غباء آخر.
في سلسلة المقالات هذه سأحاول تسليط الضوء على مهنة الطب، وعالم الأطباء في العالم العربي، وبعض المشكلات الأساسية التي يعانوا منها، بعد قراءة مستفيضة في هذا المجال للدراسات الغربية التي تحاول تحليل المشكلات التي تعاني منها مهنة الطب حول العالم عموما وفي بلادنا خصوصا.
سأحاول في هذه المقالات أن أكون موضوعيا، وألا تتحول لتفريغ نيران الغضب والإحباط نحو الأطباء، الذين تعودنا أن يمشوا بيننا كالطواوييس التي لا ينبغي أن يمس ريشها اللماع شيء.
لكل مواطن عربي قصصه الأليمة مع الطب والأطباء، وأنا منهم، وآخر قصصي معهم كانت لأبني الذي يعاني من مرض نادر _ ولكن غير خطير، وتجولت به بين الأطباء في ثلاث دول عربية، لألقى من كل طبيب جواب، بعضهم يخبرني بأن الأمر تافه ولا يستحق الانتباه، وآخرون يرون أنه خطير جدا ويستدعي “عددا من العمليات الجراحية”، وقد لا يمكن ذلك إلا في أحد المستشفيات الغربية الهامة، وأنا في هذه الحالات أبحث دائما عن الطبيب الاستشاري في المستشفى المرموق، والذي يذكره الناس بالثناء الطيب.
في النهاية وبعد التواصل مع مستشفى كندي، عرفت اسم المرض، واستطعت بفضل ذلك أن أجد عشرات المقالات عنه على الإنترنت _ باللغة الإنجليزية طبعا.
كان واحدا فقط من الأطباء الذين رأيتهم قد اقترح علي أن ابني مصاب بهذا المرض، وكان ما يميزه عن الأطباء الآخرين أنه اعترف من اللحظة الأولى أنه لا يعرف المرض من التشخيص الحالي، وأنه انكب على الكتب والإنترنت يبحث ويقرأ بينما أنا جالس في عيادته أنتظر، وصار يقارن بين الصور والأعراض وبين الحالة ليصل لتحديد المرض على أساسها، ولكن كلامه كان متناقضا مع من قبله ومن بعده ولم أعرف حينها من أصدق.
أحد المشكلات الأساسية في مهنة الطب أنها تعتمد على كم هائل جدا من المعلومات والتي تتزايد بشكل يومي بفضل ثورة البحث العلمي في الغرب، ولكن عقل الطبيب مثل عقول الآخرين، محدودة الذاكرة، مشغولة بالدنيا وطرق استثمار وإنفاق المال، والمشكلات اليومية، ولذلك فحتى الطبيب المخلص المميز _ وهم نادرون عربيا _ يتمكن من معالجة الحالات الاعتيادية، دون أن يتمكن من الانتباه للنتائج العلمية والأدوية والأمراض الجديدة، فتحصل أخطاء كثيرة جدا ناتجة عن الاعتماد الكامل للطبيب العربي على ذاكرته.
من النادر أن تجد طبيبا عربيا متصلا بقاعدة معلومات يبحث فيها عن المعلومات الخاصة بكل تشخيص ويطور معلوماته بشكل مستمر على أساسها، ورغم أن قواعد المعلومات هذه متوفرة في أمريكا وأوروبا، ورغم أن الإنترنت ساهم في نشر إمكانية الاستفادة من قواعد المعلومات من أي مكان في العالم، ورغم أن الأطباء العرب يعرفون اللغة الإنجليزية إلا أن هذا كله لم ينشر بينهم ثقافة العودة للمعلومات قبل إصدار القرارات التي تعتمد عليها حياة المرضى وصحتهم.
من جهة أخرى، يلجأ الأطباء في الغرب وبشكل مكثف لقواعد المعلومات هذه ولا يخجل الطبيب أبدا من إخبار مريضه أن عليه أن يبحث وينقب قبل أن يجيبه، لأن المريض يتقبل فكرة أن الطبيب ليس عبقريا أو كمبيوترا، ولأن ثقافة تلك الشعوب لا تقوم على الاستعراض والكذب.
المسألة لا تتعلق بالطبيب وحده فقط، بل لها أيضا سبب يتعلق بإدارة المستشفيات التي تحاول امتصاص وقت الطبيب إلى أقصى حد، فتحوله إلى آلة تقابل المريض بعد المريض دون مراعاة لهذا الجانب. الطبيب الذي يعمل لحسابه من جهة أخرى يريد أن يستفيد من كل لحظة في زيادة أرباحه، ولا يريد الإنفاق على جوانب “الرفاهية المعلوماتية”.
هناك أيضا المجتمع، الذي ينظر باحتقار وعدم تقدير للطبيب الذي يقول “لا أعلم وسأبحث من أجلك” لأنه بذلك سيحكم على الطبيب بأنه ضعيف ويرحل عنه إلى الأبد، ولذلك يحتاج الطبيب، حتى لو كان صادقا ومخلصا، أن يتظاهر بأنه يعرف حتى لا تسوء سمعته ولا يتحدث عنه الناس بأنه جاهل.
الحل سهل ممتنع؛ المجتمع يحتاج أن يفهم حقيقة انفجار المعلومات الطبية، وأن الطبيب إنسان عادي تماما مثله مثل غيره، وأن اهتمامه بالبحث هي دلالة خير وليس العكس، والأطباء يجب أن يفهموا أن عليهم أن يعملوا متكاتفين لمقاومة إدارات المستشفيات وجهل الناس وضعف قواعد المعلومات العربية _ التي تعطي المعلومات الخاصة بالمرضى العرب _ أو عدم توفر قواعد المعلومات الغربية، لأن النتيجة الجماعية هي أن الطبيب العربي يفشل مرة بعد أخرى في التعامل مع الحالات الحساسة.
على الأطباء أيضا أن يبحثوا عن طرق مهنية وقانونية لإزاحة الضعيف المهمل وغير المخلص، وهذا ما سأتحدث عنه الأسبوع القادم.
أسأل الله لكم جميعا الصحة والعافية..
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية