من أغرب الأمور التي تميز الثقافة الأمريكية هو الإحساس بأن أمريكا معرضة للانهيار في أي وقت، فهناك نسبة جيدة من الأمريكيين الذين لا تخلو أحاديثهم الجادة أو الهزلية من الحديث عن انهيار أمريكا أو على الأقل انهيار قوتها العظمى، ويجد هؤلاء مئات الكتب في المكتبات الأمريكية وآلاف المواقع التي تحفل بالمناقشة المكثفة لهذه القضية، وغالب هذه الكتب تؤمن بأن الانهيار قادم قريبا لا محالة ما لم يحصل تغيير ما غير عادي وغير متوقع.
تسرب هذا الإحساس للأمريكيين من الأوروبيين وخاصة الفلاسفة الألمان الذين طالما رددوا بأن الحضارة الغربية شأنها شأن كل حضارة عبر التاريخ ستنهار، وذلك ضمن دورة تاريخية يرسمها هؤلاء الفلاسفة، ومن أشهر الكتب التي تشرح هذا الفكر بعمق وتوسع هو كتاب “تدهور الحضارة الغربية” لاشبنجلر والذي ترجمه أحمد الشيباني.
توسعت دائرة هذا الفكر، وناصر الفكر نفسه التيار الأصولي الإنجيلي الذي روج لفكرة أن “الله سيعاقب أمريكا لانتشار الآثام فيها”، ورغم أن تيارا آخر حارب هذا التوجه مؤكدا على فكرة أن “الله بارك لأمريكا”، وهي العبارة المكتوبة على كل النقود الأمريكية ويرددها الرؤساء في كل خطاباتهم، فإن هذا التيار أيضا نشر في الأمريكيين الإحساس بأن التفوق الذي حققوه لم يأت بما استحقوه بل ببركة خاصة من الله، مما جعلهم دائما في خوف أن تزول عنهم هذه البركة إذا لم يحسنوا استخدام التفوق الأمريكي.
التقطت هوليود الفكرة وحولتها لعدد كبير من الأفلام الشهيرة حتى صار الأمر مكررا، والتقطتها صناعة النشر التي أصدرت عددا كبيرا من الكتب الرائجة التي دارت حول أمريكا، وهذه الكتب في الغالب تنطلق من منطلق اقتصادي يحمل الكثير من الأرقام عن ديون أمريكا و”هشاشة بنيتها الاقتصادية”، أو تنطلق من منطلق استراتيجي من خلال تحليل تطورات التحالفات الدولية في وجه أمريكا، أو من منطلق ديني كما شرحت أعلاه، أو من منطلق تاريخي فلسفي، أو من منطلق قريب من الفكر الماركسي المحارب للرأسمالية، أو من منطلق تآمري يحكي عن قوى خفية تملك مستقبل أمريكا وستعمل على تدميرها في أي وقت، وهذا المنطلق بالذات منتشر في ضمن مجموعات محدودة تؤمن بهذه الأفكار إيمانا عميقا، ومنها خرج تيموثي مكفيه الذي كان مسؤولا عن تفجيرات أكلاهوما في عام 1993.
قبل أيام تلقيت رسالة إلكترونية من صديق أمريكي، بروفسور للفيزياء وصاحب عدة اختراعات في الخمسينات من عمره.
يقول هذا الصديق: “أقرأ هذه الأيام في كتاب لم أنهه بعد لموريس بيرمان، اسمه عصور الظلام الأمريكية Dark Ages America، يتوقع بيرمان، مستقبلا مظلما جدا لبلدنا، وهو مستقبل لست حتى متأكدا أننا سنستطيع الهرب منه حتى مع انتخاب رئيس مختلف؛ لقد جمع عددا من الأحداث ليظهر نمطا واضحا يؤدي للانهيار، أو على الأقل تدهور الدولة؛ لقد جاء من اساء لقيمنا الديمقراطية مرة بعد مرة، وأنا وزوجتي رغم أننا كنا منتبهين لهذه الأحداث، ولكننا لم نجمع الأدلة مع بعض كما جمعها بيرمان، وهو أمر مخيف؛ لقد نشأت وكبرت مؤمنا بمستقبل مضيء لديمقراطيتنا الرائعة، ولكن الآن وأنا أقرأ بيرمان، أرى أن هذا المستقبل قد تم تشويهه لمصالح رأسمالية وامبريالية، والمستقبل لم يعد مضيئا بل مظلما جدا؛ نظامنا فيه آليات للتصحيح والمراجعة، ولكن هذه الآليات تم تدميرها ولا تعمل حاليا كما كان مخططا لها، وأنا أخشى أن يؤدي هذا لسقوط أمريكا على ركبها أمام العالم إن لم يكن أدنى من ذلك؛ إنني أشعر بالقلق الآن أين علينا أن نذهب وماذا علينا أن نفعل، كيف يمكن أن نشارك في تغيير إيجابي، وفي نفس الوقت أتساءل إن كان يمكن أن يكون لنا أي تأثير”.
هذه العبارات التي استأذنت صديقي في نشرها تشرح بعض عوامل هذا التفكير، والكتاب الذي يتحدث عنه هو من أكثر الكتب مبيعا في أمريكا حاليا، ولكن الغريب أن التفكير نفسه والحجج نفسها والمنطق نفسه هو نفس الفكر الذي تكرر في الأربعينات الميلادية إلى يومنا هذا مرورا بالستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات، وليس خاصا بهذه الفترة.
ربما كان هذا الشغور الطاغي لدى الأمريكيين بالنقد الذاتي هو ما يساهم في وقوفهم حينا بعد الآخر لمراجعة أنفسهم، وخلال زيارتي هذه لأمريكا رأيت نقاشا مسيطرا على المنابر الأكاديمية والثقافية لتقييم ما فعله الأمريكيون بعد 11 سبتمبر وخاصة في العراق، وإذا أسفر هذا النقاش عن تغير إيجابي فهو إثبات آخر أن الحوار الحي المفتوح للأفكار على تنوعها يساهم في النهاية في تصحيح المسار، كما تساهم آليات العرض والطلب في تصحيح أخطاء الأسواق التجارية.
أمريكا لها دورة تاريخية شأنها شأن كل الحضارات، ولكن القدرة على التصحيح الداخلي والإيمان بقيم العدل والمساواة تساهم دائما في إطالة عمر الحضارات، والعكس صحيح دائما.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية