كيف يموت العقل رغم تقدم الحضارة؟

من قسم منوعات
الإثنين 16 يوليو 2007|

القدرات الذهنية والعقلية الفردية للناس تتراجع عبر السنوات، وهذا راجع لعدد من العوامل التي ذكرتها في مقال الأسبوع الماضي.

عموم الناس في يومنا هذا _ ولا عبرة للحالات الفردية _ لديها ذاكرة أضعف، وبديهة أبطأ، وقدرة أقل على التفكير والاستنباط.

الأمور لن تشهد تحسنا بل إن التكنولوجيا ونمط الحياة والثقافة المرئية وغيرها ستساهم في جعل الأمور أسوأ، إلا إذا تغير شيء بشكل جذري في أسلوب الحياة الحديثة.

النتيجة أعلاه لقيت الكثير من الاعتراض من قراء المقال والذي نشر أيضا في عدد من مواقع الإنترنت، وسبب الاعتراض هو كيف يتوافق هذا مع التقدم الحضاري الذي تعيشه الدول الغربية، وتسارع وتيرة الاختراعات والتطور التكنولوجي ونمو التفكير الاستراتيجي عالميا.

كيف تضعف قدراتنا العقلية بينما تقف الإنسانية على قمة الهرم تاريخيا في مختلف المجالات وبعد أن صار تسارع التطور في آخر 100 سنة أكثر من تسارع التطور عبر تاريخ الإنسانية كله؟

الجواب سهل ومهم أيضا لأنه يفتح لنا آفاقا في الدول النامية حول كيفية التعامل مع التخلف الحضاري الذي نعيشه مقارنة بالدول المتقدمة.

لقد تقدمت الإنسانية بفضل أمور مختلفة عن القدرات الفردية، تقدمت الإنسانية بفضل البحث العلمي وبفضل وضع نتائج البحث محل التطبيق، وبفضل الحماية التي منحتها الحكومات والأنظمة التشريعية للبحث العلمي وللحرية الأكاديمية وللموارد التي يمتلكها الباحثون.

والبحث العلمي لم يتقدم بفضل الإمكانات الفردية، بل بفضل الإمكانات المالية والميزات الهائلة التي يحصل عليها الباحثون.

لدينا في العالم العربي باحثون كثر يعملون ليل نهار بلا مقابل، أو حتى يأتي ناشر متحذلق فيحصل على أغلب المال من توزيع الكتاب، بينما في الغرب لا يعمل باحث بدون “منحة مالية” مقدما.

في العالم العربي باحثون “شموليون” كثر، ينطلقون من رؤية ثقافية أوسع بينما في الغرب تجد الباحث متخصصا في مناطق محدودة لا تتطلب الكثير من الجهد والذكاء ليكون الإنسان مميزا فيها.

الفرق هنا أن لديهم عدد هائل من الباحثين الذين يصنعون بمجموعهم إنجازا بشريا هائلا، بينما لدينا في العالم العربي باحثون قلة من الذين ضحوا بأنفسهم ولم يجدوا من يصفق لهم أو يشكرهم بل وجدوا في كثير من الأحيان “العقاب” الاجتماعي قبل السياسي.

لقد تقدمت الإنسانية لأنها امتلكت نظاما متقدما يسمح للمجموع أن يسهم في تقدم الإنسانية أما القدرات الفردية فهي في تراجع كبير حتى في الغرب، والدراسات تثبت ذلك.

هناك أيضا مؤشرات واضحة على تراجع الحضارة الغربية في دعمها للبحث العلمي مقابل المزيد من الاهتمام بالأرباح التجارية، وإذا حصل فعلا هذا، فإن تراجع القدرات الفردية سيكون له ثمنه الفادح على الحضارة الإنسانية.

نحتاج في العالم العربي أن يتطور إيماننا بالبحث العلمي، واللوم هنا ليس على الحكومات فقط بل يذهب بالدرجة الأساسية إلى المؤسسات الأكاديمية التي لم تستطع أن تقنع أحد بأهمية البحث العلمي أو بقدرتها على القيام بهذا الدور، بل إن الجامعات فشلت في إقناع الناس بقدرتها على التدريس، الذي لا يختلف كثيرا عن آليات التدريس في الثانويات، والدليل على ذلك تزايد الإقبال على الدراسة في الجامعات الغربية رغم تزايد عدد الجامعات والمعاهد في العالم العربي.

نحتاج أيضا في العالم العربي أن نقاوم تدهور القدرات الفردية، لأننا ببساطة لا يوجد لدينا نظام يدعم التقدم العلمي، وهذا يعني أن نتحول إلى أمة ليس لديها مؤسسات، كما أن أفرادها المميزين يزدادون ندرة لصالح مجموع من البشر لا يملك المعلومة وتقوده العاطفة ويعمل كل يوم في فلك البحث عن المال.

إنني أنظر للجيل الجديد من الشباب في العالم العربي بحسرة، وأظن أن الكثيرين جدا من الناس يشاركونني نفس الحسرة، هو جيل طموح ولكنه يبحث فقط عن مستوى حياة أفضل، وهو في نفس الوقت بعيد تماما عن العلم والتاريخ والقراءة والاستمتاع بالثقافة حتى أنك من النادر أن تجد شابا تقود معه حوارا ذكيا هذه الأيام، حتى لو كان الشاب نفسه لديه رؤية أكثر تحديدا عما يريد فعله في حياته من الأجيال السابقة.

لدينا مشكلات كثيرة جدا، ولكن الفرد العربي كان دائما قادرا على المواجهة والصبر، وأنا أرى أن الفرد نفسه أصبح ضعيفا خائفا عاشقا للمادة والراحة وغير مدرك لتعقيدات الأمور.

لا عيب في أن نحلم بإنسان أكثر ذكاءا!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية