أثارت الضجة الأخيرة بشأن عدد من الفتاوى “الغريبة” التي صدرت في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وآخرها فتوى رضاع الكبار في مصر، حفيظة الكثيرين والذين طالبوا بحلول مختلفة لهذه القضية بما فيها إيجاد هيئات رسمية لا يصدر الفتوى إلا عنها أو توحيد الفتوى أو منع الذين لا يحملون تصريحات رسمية بالإفتاء إلى آخر ذلك من الآراء التي يظن أصحابها أنها ستعالج المشكلة.
لكن هذه الآراء كلها أثبتت عدم فهم للطبيعة التعددية للشريعة الإسلامية، وطبيعة الفقه الإسلامي، وذلك لأنها نشأت بشكل أو بآخر من ثقافة ناشئة تقدس الفقيه وتعطيه القوة ليحدد للمسلمين ما يفعلون وما لا يفعلون، وهو أيضا مناف لمبادئ الإسلام.
بخلاف كثير من الديانات، تقوم الديانة الإسلامية على مستويين من التشريع، مستوى الأصول أو الثوابت، وهي محدودة جدا، ولا يقبل فيها الاختلاف، ومستوى الفرعيات، وهو أمر مفتوح للاجتهاد وإبداء الآراء وتتأثر هذه الفرعيات بالزمان والمكان والظروف والأعراف، كما تتأثر بالدرجة الأولى بطريقة فهم المجتهد للأدلة والنصوص الشرعية “القرآن والحديث النبوي”.
إن وجود الآراء المتعددة في الفقه الإسلامي وعدم وجود رأي واحد أكيد لم يحصل صدفة بل هو جزء من جوهر الإسلام الذي أراد بناء مجتمع تعددي تتنوع فيه الآراء والاجتهادات سواء فيما يتعلق بقضايا الشريعة نفسها أو بالتعامل مع قضايا الحياة من منظور ديني، وإلا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان سيجعل أحكامه قاطعة محددة لا تقبل الاجتهاد ولا تعدد الأفهام.
هذا القبول لتنوع الآراء هو الذي خلق مجتمعا في قمة التسامح حتى مع الآراء الخاطئة، فقصص التراث تؤكد لنا أن المذاهب العقدية والفقهية كانت تنشأ في كل مكان دون وجود من يقمعها، ولذلك نشأت في ذلك العهد رغم قرب الزمن مع ظهور التشريع مذاهب عقدية كثيرة جدا _ مثل المعتزلة والمشبهة والمعطلة والمرجئة وغيرهم _ لا يقارن عددها بالمذاهب الموجودة حاليا، وكذلك الأمر بالنسبة للمذاهب الفقهية والتي نشأت وتزايدت بينما في عصرنا لم نسمع بنشوء أي مذاهب فقهية محددة إلا على استحياء.
في زمننا هذا كنا سنرسل تهديدات بالقتل لو خرج أحد بمثل كتاب الأغاني الذي يصف الصحابة فيه بالمجون بناء على روايات موضوعة، أو لو ظهر أحد بنظرية “الحلول والاتحاد” ولكنا خرجنا بمظاهرات ضخمة لو سمحت الدولة للملحدين بالتجول في المساجد ليناظروا العلماء حول وجود الله عز وجل كما حصل في زمن أبي حنيفة، ولكن ذلك الزمن كان مختلفا وكان يقبل كل هذا التنوع، والسبب في رأيي هو ثقافة الإسلام التي كانت تقبل التعدد وتشجعه.
لقد رفض الإمام مالك، أن يحمل الخليفة الناس على الموطأ بمعنى توحيد الفتوى لأن هذا مخالف لجوهر الإسلام، والأصل أن يبقى الأمر كذلك، بمعنى يبقى الإسلام مفتوحا للاجتهادات وتعدد الآراء، وإن كان هذا يتطلب ثقافة مختلفة تماما عن ثقافتنا الحالية، ثقافة تؤمن بقبول الاجتهاد وتعطي لكل مجتهد فرصة الإيمان باجتهاده وتطبيقه دون أن تقمع فئة الأخرى لإيمانها بأن رأي الفئة الأخرى ضعيف وغير راجح ولا يصح بناء على الأدلة الشرعية.
هناك ولا شك اجتهادات حمقاء وغبية وتفتقد الحكمة ولكن الآراء الحمقاء موجودة في كل تخصص، فوجود أطباء يخطئون ويموت مرضاهم لا يعني أن الطب قد مات ولا ينفي وجود أطباء عباقرة يحسنون صنعتهم، والأمر نفسه ينطبق على المتخصصين في الشريعة الإسلامية كما ينطبق على الإعلاميين والكتاب والمثقفين وغيرهم.
إنني أؤمن إيمانا عميقا أن قبول التعددية في الرأي والاجتهاد هو جزء لا يتجزأ من أخلاق الحضارة، ولذلك كانت جزءا من حضارتنا الإسلامية ثم لما تخلينا عن ذلك أصابنا الضعف والتخلف، ولما افتقد الغرب للتعددية عاشت في العصور المظلمة ثم عاشت أجمل فتراتها الحضارية لما تقبلت التعددية، والأمر نفسه ينطبق على اليابان وغيرها من الحضارات.
إننا بحاجة لنظرة جديدة للثقافة الإسلامية، لأنني أظن أن المنطلق قد يكون من هذه النظرة الجديدة، فالفهم الحقيقي لمنطق الإسلام الذي شجع الاجتهاد واختلاف الآراء وتنوع المذاهب _ إذا كانت ضمن الأصول والثوابت المتفق عليها _ سينشر ثقافة بين الناس تجعلهم يقبلون مثل هذا التنوع في الرؤى الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
توحيد الفتوى يعني حرمان الإسلام من أجمل خصائصه.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية