هناك دائما تركيز على المشكلات التي تعاني منها الأسر وتسبب تمزقها، ولكن أحدا لا يتحدث عن مشكلات “الأسرة المثالية” رغم انتشارها في عالمنا العربي وذلك لأن “المثالية” بقيت دائما أمرا إيجابيا لا يدرك الكثيرون أنه قد يكون مرضا نفسيا أو عاملا سلبيا في بناء الأسرة!
الكثير من الشباب العربي يحلم بالأسرة الكاملة، ويحلم بالزوجة العظيمة التي “تعمل ليل نهار لخدمة بيتها وتربية أولادها وطاعة زوجها ومرضاة ربها” ويحلم بالأبناء الذين يمثلون كل القيم التي يؤمن بها، ويبدأ الكثير من هؤلاء الشباب بالعمل جادا لتحقيق ذلك بعد زواجه، وقد يستمر في هذا الأمر لسنين طويلة، لا يفتأ فيها ولا يكل من إلقاء المحاضرات على زوجته وأولاده، وإيجاد النظم والقوانين داخل أسرته، ومتابعة كل صغيرة وكبيرة لتحقيق ذلك.
الدوافع للحرص على الأسرة المثالية مختلفة، فهناك أشخاص ينطلقون من دوافع دينية، فهو يحرص على الالتزام الشديد بكل صغيرة وكبيرة من تعاليم الشريعة الإسلامية السمحاء، وهناك أشخاص يعانون من عقد نفسية بسبب حياتهم في الصغر، الأمر الذي يجعله حريصا على أن يحقق من خلال أسرته الجديدة ما لم يحققه له والداه في طفولته، وهناك من يعاني من عقد النقص التي يحاول تعويضها من خلال المظهر المثالي للأسرة، وهناك من يعاني من حالة نفسية تسمى بـ”الإتقانية” Perfectionism.
في كل هذه الحالات تعاني الأسرة من عدة مشكلات، فالأب أو الأم اتخذ قرارا بالنيابة عن الأسرة بالعيش بطريقة معينة، الأمر الذي يشعر الطرف الآخر والأبناء بأنهم مجبرين على أسلوب حياتهم، وأنهم لم يتخذوا القرار الخاص بذلك، حتى لو كان أسلوب الحياة هذا هو الصحيح، مما يخلق ضغطا نفسيا داخل الأسرة، ويزيد هذا الضغط النفسي مع استخدام الشخص المثالي لأساليب التخويف والزجر والوعظ والترغيب لإقناع الأسرة بالاستمرار في المثالية، كما يزيد هذا الضغط النفسي عندما تحرص الأسرة على الظهور بالشكل المثالي والبحث عن العلاقات الاجتماعية المتناسبة مع وضعها مما يعني العيش ليل نهار تحت ضغط المبادئ والأفكار النموذجية.
تصبح المشكلة أكبر، عندما يكون لأفراد الأسرة وجهان، وجه داخل الأسرة ووجه خاص، وهذا طبعا يشمل رب الأسرة المثالي الذي يحتاج أحيانا ليمارس إنسانيته، فيمارسها بعيدا عن زوجته وأولاده، ويلجأ للسفر أو الهروب، والأمر نفسه ينطبق على الأولاد وخاصة المراهقين، مما يعني في النهاية عدم وجود المحبة والصدق داخل الأسرة، الأمر الذي يؤدي لتمزقها في النهاية.
لهذا السبب، تنظر أقسام علم النفس الأكاديمية وأطباء علم النفس بجدية أكبر هذه الأيام للسلوك الإتقاني الذي أشرت إليه سابقا، حيث يشعر الشخص المصاب بهذه الحالة بأن الإتقان الكامل لعمله أساس لإنجازه أي شيء، ولأن ذلك مستحيل، فهو يشعر دائما أنه لا يحقق أهدافه، ويؤجل في كثير من الأحيان إنجاز الأمور حتى يتقنها، مما يجعله ضعيف الإنجاز في النهاية مقارنة بأقرانه الذي قد يملكون مهارات أقل من مهاراته.
سبب هذه الحالة في الغالب أن الإنسان في صغره تعلم بطريقة أو بأخرى أن قيمته وتقدير الآخرين له مرتبط بإنجازاته، ولذلك فهؤلاء الأشخاص يعانون دائما من الخوف من الفشل أو الأخطاء أو رفض الآخرين لهم، والشعور بالحسد من الآخرين الذين يحققون الإنجازات بسهولة في حياتهم.
ما يحصل للأسرة التي يقودها امرأة أو رجل “إتقاني” أن رب الأسرة يضع لها أهدافا لا يمكن تحقيقها، الأمر الذي يسبب الفشل في تحقيق الأهداف، مما يجعل رب الأسرة الإتقاني يضع المزيد من الضغط لتحقيق هذه الأهداف، وهذا يحول الأسرة لتهتم بتحقيق هذه الأهداف أكثر من اهتمامها بحياتها الأسرية نفسها، مما يعني الفشل في النهاية، فيزيد مستوى النقد الذاتي بشكل حاد وتنخفض الثقة بالنفس.
الشخص الإتقاني يعالج هذه المشكلة عادة بالإيمان بأنه فشل تماما، ويبحث عن شماعة ليعلق عليها الفشل، ثم يبدأ بأهداف جديدة وتعود الدورة من جديد ليتكرر الأمر نفسه تماما.
صحيح أن هذه الحالات ليست منتشرة كثيرا، ولكنها موجودة، ومن يعاني منها لا يعرف بذلك، ولكن نرى هؤلاء الأشخاص حولنا في حياتنا الاجتماعية وفي العمل ونظن أنهم فقط باحثون عن النجاح لا يعرفون طريقه، ولا ندرك كما لا يدركون أنهم بحاجة للعلاج السلوكي الذي يجعلهم يعودوا لحياتهم الطبيعية.
العرب بطبيعتهم عاطفيون، ويحبون المبادئ، وهذا يجعل المثالية تتسرب إليهم، ولأنهم يفشلون في تحقيقها، يطالبون أسرهم بها، وتبدأ المشكلات من هذا الباب.
قد يكون من النقص طلب الكمال!
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية