تمر سورية والأردن بأزمة سياسية بعد أن انتقد الرئيس السوري شعار “الأردن أولا”، لتنطلق الصحف الأردنية في هجوم حاد على سورية، وتمر سورية بأزمة سياسية أخرى مع لبنان _ كما هو معروف _ وهناك أزمات أخرى بين بعض الدول العربية.
في كل هذه الأزمات تجد عنصرا مشتركا وواضحا: تتحول الأزمة السياسية إلى أزمة شعبية حيث ينصب غضب شعب الدولة على شعب الدولة الأخرى، رغم أن كلا الشعبين لا علاقة لهما بجذور الأزمة أو علاجها أصلا.
لكن الأمر, في رأيي, ليس مجرد تفاعل عاطفي شعبي مع قرارات القيادة السياسية للدولة، بل إن الأمر _ حسبما أزعم _ أبعد من ذلك، إذ يتحول لتنفيس عن مشاعر سلبية مختزنة ومكبوتة في أعماق الكثيرين في العالم العربي ضد كل الشعوب العربية الأخرى.
حتى أثبت لك بالبرهان ما أقول، توجه بالسؤال للناس الذين حولك، واسألهم عن أول صورة ذهنية تخطر على بالهم عندما تذكر لهم شعبا عربيا آخر، قل لهم اللبنانيين، المصريين، السوريين، الكويتيين، الفلسطينيين، السودانيين، الجزائريين… إلخ.
وأنا أظن أن الشخص إذا كان صادقا معك، ولم يكن من الصفوة التي تتميز بالتسامح وقبول التعددية ورفض التعميم، فهو سيذكر لك صورا سلبية حادة عن هؤلاء الشعوب.
حتى تتأكد أن الأمر ليس مجرد طبيعة بشرية في رفض الآخر، اذكر للشخص نفسه شعوبا غير عربية، قل له مثلا الفرنسيين، الإيطاليين، الكنديين، اليابانيين، الكوريين، وفي كثير من الأحيان ستستمع لصور إيجابية أو على الأقل حيادية.
دليل آخر، تخيل أن شخصا سيتزوج امرأة من دولة عربية أخرى، مباشرة ستجد الصور السلبية تقفز إلى الذهن، لتصبح النتيجة أن هذا الزواج غير طبيعي وأن “سببا ما” أحدثه!
اذهب إلى المنتديات في الإنترنت وستجد هجوما كاسحا من العرب على بعضهم، وتجد أن أقل حادثة فردية كافية لأن يهجم الشخص على الأمة كلها، فإذا أخطأ سعودي، جاء الحكم على السعوديين، وإذا أخطأ مغربي جاء الحكم على المغربيين، هكذا بلا هوادة، وكأن المتحدث ينتمي إلى شعب لا يعرف الأخطاء ولا الزلل.
هذه الظاهرة _ في رأيي _ هي التي تفسر الخلافات التي تسود الجاليات الإسلامية في الغرب، يأتي العرب من كل دولة، وهم يحملون هذه الصور السلبية، وتضعهم في تجمع صغير واحد، وسرعان ما يصطدمون ببعضهم، تجد ذلك في الجمعيات العربية، وفي المراكز الإسلامية، وأحيانا في التعاملات التجارية، وكثيرا ما تنتهي خلافاتهم في المحكمة أو بشكل عنيف مثير للسخرية.
لماذا يحمل العرب هذه المشاعر السلبية ضد بعضهم؟ هل هي الغيرة أم أنها التجارب السلبية التي نشأت بسبب التعامل فيما بينهم أم ماذا؟.
الجواب مهم لفهم طبيعة هذه الظاهرة وجذورها، ولكن الأهم من معرفة الأسباب هو الاعتراف بهذه المشكلة والابتعاد عن المثاليات في علاجها والبحث العميق عن سبل لتقوية علاقات العرب ببعضهم وتحسين الصور الذهنية التي يحملونها عن الآخرين في عقولهم.
لقد عشنا لعقود طويلة نسمع شعارات جميلة عن التعاون العربي والوحدة العربية، ولو انتقدت هذه الشعارات فسيقفز ألف شخص يستنكرون ذلك ويطالبون بفعل كل ما يضمن وحدة الصف العربي في وجه الأعداء _ وكل شخص طبعا عنده قائمته من الأعداء _ وهذا جميل، ولكن أحدا من هؤلاء الألف لا يلاحظ أن هذه الشعارات لم تطبق يوما على الأرض، وأن التعاون العربي هو مجرد فكرة وخطاب بليغ أكثر من كونه واقعا حقيقيا.
نحن نكره عادة النقد الذاتي، وهذا يحرمنا من فرصة تقييم الأمور بشكل منطقي والبحث عن الأسباب والحلول.
هل الحل ممكن؟
أدعي بأن الجواب نعم بلا شك.
إذ تمكن الأمريكيون بجهود مكثفة خلال خمسة عقود من الزمن أن يخففوا حدة العنصرية بين البيض والسود إلى أقل درجة ممكنة، فنحن نستطيع رفع درجة “المحبة” بين الشعوب العربية خلال فترة أقل، إذا بذلنا الجهود نفسها.
نحن نحتاج لبرامج ثقافية مكثفة تعلمنا التسامح وحب الآخرين _ من العرب _ وتعلمنا خطورة التعميم وتفهم ظروف العرب الآخرين وتعلمنا عدم ربط الخلافات السياسية بالشعوب التي ليس لها في هذه الخلافات ناقة ولا جمل، في أغلب الأحيان، نحتاج أن يكون هذا جزءا من منهاجنا الدراسي، وأن يتبناه السياسيون والمفكرون ورجال الأعمال قبل غيرهم.
نحن لا نفعل ذلك، لأننا نحلم بوطن من المحيط إلى الخليج يغني فيه كل العرب بصوت واحد، بل ببساطة لأن مصالحنا تقتضي ذلك، التعاون العربي هو الذي يعالج مشكلة اقتصادنا الضعيف وسوقنا الصغير ومواردنا البشرية المحدودة وقدراتنا السياسية المبعثرة، والتعاون العربي لن ينجح إذا كنا نكره بعضنا البعض.
سألت أخيرا أكاديميا فرنسيا من أصل عربي، انتقل للعيش في قطر، بعد أن قضى كل حياته في فرنسا، سألته عن حاله هناك، فقال لي إنه غير سعيد لأنه مجتمع “جاليات” communautarist، أي أنه مجتمع تنغلق فيه كل جالية على نفسها، “فالمصريون لا يتعاملون إلا مع المصريين، والتونسيون لا يتعاملون إلا مع التونسيين وهكذا”، حسبما قال.
أليست مجتمعاتنا كلها مجتمعات جاليات، ينغلق فيها مواطنو الدولة على أنفسهم، ومواطنو الإقليم على أنفسهم، ومواطنو المدينة على أنفسهم؟ نحتاج لإصلاح شريط الصور السلبية المترسبة في أعماقنا!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية