الدنمارك تعيش صدفة حزينة.
هذا البلد الاسكندنافي الذي بنى قيمه على أساس التعايش بين الشعوب والأديان والاهتمام بالتسامح وقيم الحرية والليبرالية، وهو الذي استضاف آلاف المهاجرين العرب والمسلمين من العراق والصومال وأريتريا وأفغانستان وغيرها، وأعطاهم حق المواطنة، حتى أنك ترى النساء المسلمات وقد لبسن النقاب أو الحجاب والرجال يلبسون الأثواب ويتجولون في شوارع كوبنهاجن وغيرها من المدن، هذا البلد نفسه يواجه اليوم أزمة مع العالم الإسلامي بسبب خطأ لا يغتفر من قبل صحيفة دنماركية نشرت صورا كاريكاتورية مهينة للرسول، صلى الله عليه وسلم.
الصدفة تأتي لأن عام 2006 قد خصصته الدنمارك للتفاهم مع العالم العربي والتعريف به، وقد خططت لذلك منذ أربع سنوات، ورصدت ميزانية ضخمة لمجموعة من الفعاليات التي تضم مهرجانا عربيا على امتداد شهر أغسطس، وبرنامجا للتبادل الطلابي بين الجامعات العربية والدنماركية، وبرنامجا آخر للتبادل الإعلامي، وعددا من الفعاليات الثقافية على امتداد السنة.
بدأت أول الفعاليات في شهر ديسمبر الماضي في أيام عيد الفطر المبارك حيث تم عقد مؤتمر ضخم عن “الإعلام الجديد في الشرق الأوسط” برعاية جامعة جنوب الدنمارك.
كنت أحد المشاركين في المؤتمر، وفوجئت حينها بالحضور المكثف لطلاب أربعة أقسام جامعية دنماركية في الدراسات العربية والإسلامية، بالإضافة لأكاديميين من مختلف الدول الاسنكندنافية، وأكاديميين آخرين من دول أوروبا ومن أمريكا.
كان واضحا من لغة الحضور في المؤتمر أن الجهة المنظمة للمؤتمر لديها انحياز للعالم العربي، حتى أن أكثر الأكاديميين الحاضرين تحول خطابهم من أوراقهم العلمية إلى حديث يعارض حرب العراق ويتحدث بتعاطف عن القضية الفلسطينية ويطالب بفهم أفضل للعالم العربي وبعدالة أكبر مع المسلمين ويشيد بالتسامح الإسلامي، وشمل هذا الأكاديميين الغربين الحاضرين، وهذا على ما يبدو شجع بعض الأكاديميين العرب المدعوين على إلقاء خطابات عاطفية تشتكي بمرارة من الوضع القائم وتدعو لحل مشكلات العرب العربي.
في لقاءات مع الجالية العربية في الدنمارك، كان الحديث دائما مختلفا عن حديث الجاليات العربية المعتاد في أوروبا عن التسامح وما يلقونه من تقدير واحترام في الدنمارك، ولما تحدثت مع رئيس الجهة المنظمة لفعاليات عام التعريف بالعالم العربي، كان يتحدث بحماس عما يمكن تحقيقه من خلال هذه الفعاليات، وخاصة مع جهل الكثير من الدنماركيين بالمسلمين والعرب.
لكن هذا الحماس يأتي مع حظ سيء للدنماركيين، لأنهم اختاروا العام الذي يقف فيه الأوروبيين في انزعاج شديد من العالم العربي بعد مقتل فان جوخ، في هولندا والتفجيرات في لندن وأسبانيا والأحداث في فرنسا وغيرها من الأحداث التي قام بها فئة متطرفة من العرب والمسلمين في مختلف أنحاء أوروبا، ولأن جهودهم ذهبت هباء مع ما نشرته تلك الجريدة سيئة الذكر التي استفزت العالم الإسلامي بصورها المسيئة للرسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم.
لست أدري إذا كانت ردة الفعل الضخمة التي حملها العالم الإسلامي نحو الدنمارك ومعاقبتها على جريرة هذه الجريدة هو التصرف الأمثل، هل هذا فعلا سيؤدب الاسنكندنافيين فيحسبون ألف حساب قبل الإساءة للإسلام والمسلمين، أم أن هذا التصرف سيدفعهم للمزيد من الغضب لأن العالم العربي لا يقبل مبادئ حرية التعبير التي يؤمنون بها ويترك هذا آثاره السلبية على موقفهم من العرب بشكل عام وموقفهم من الجاليات في الدول الاسكندنافية، لكن هناك أمران هامان نستطيع ملاحظتهما هنا:
- الأول: أن العالم الإسلامي والعربي لم يتحرك في السابق للتعريف بالإسلام والعرب وتحسين صورتهم في الدول الاسنكندنافية.
لقد حدثني عدد من قادة الجالية العربية في الدنمارك كيف يسيء العرب والمسلمين لأنفسهم هناك من خلال محاولاتهم الدائمة للتهرب من الضرائب والحصول على الضمانات الاجتماعية التي لا يستحقونها ومخالفة القوانين بأنواعها، كما التقيت مدير مهرجان التعريف بالعالم العربي في أحد العواصم العربية ليشتكي لي من عدم تجاوب المسؤولين العرب مع جهودهم لإقامة المهرجان، وكان هذا طبعا قبل الضجة التي حصلت بسبب الرسوم الكارتونية.
بمعنى أصح، نحن نتصرف فقط من خلال ردود الأفعال العاطفية التي تستمر لفترة ثم تموت، كما ماتت ردود أفعالنا الغاضبة في السابق ضد إساءات كثيرة دون أن يكون لها نتائج تذكر.
نحن لا نستفيد من الأحداث لتكوين استراتيجيات نقوم على أساسها بنشاط مكثف ومنظم له أهداف محددة ويتم تقييم هذه الأهداف مع مرور الزمن.
هل يستفيد العالم الإسلامي مما حصل في الدنمارك والنرويج ويبدؤون حملة للتعريف بالإسلام والرسول، صلى الله عليه وسلم، في مختلف الدول الأوروبية؟
لا أظن، فنحن لم نفعل ذلك في السابق قط.
- الأمر الثاني: كان العرب والمسلمون ضحية تعميمات الأوروبيين الذين فهموا المسلمين من خلال المتطرفين والجهلة، والعرب والمسلمون نفسهم ارتكبوا هذا الخطأ عندما عمموا خطأ جريدة على دولة كاملة لا تملك بحكم القانون أي سيطرة على هذه الجريدة.
أظن أن العالم يفهم الآن هذه الطبيعة البشرية، وهذا سيدفع الدول الغربية للنظر في قوانين النشر لديها كما تفعل بريطانيا حاليا والتي بصدد إصدار قانون يجعل الإساءة لأي دين من الأديان عملا عنصريا يعاقب القانون عليه، كما ينبغي أن يدفعنا فهم هذه الطبيعة البشرية لبذل كل الجهود لمحاصرة أولئك الذين يسيئون إلينا من بني جلدتنا، لأن الناس من طبعها أخذ المجموع بجريرة الأفراد.
لقد كانت صدفة حزينة للدانمارك، وأرجو بالمقابل أن تكون بداية سعيدة للعرب عندما لا يكتفون برد الفعل السلبي ويفكرون برد الفعل الإيجابي، وهناك فرص كثيرة لذلك لو قررنا يوما فعل شيء ما!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية