حين يحين لغيور عربي ما أن يفكر من عام إلى آخر في الجرح الدفين المتمثل باندثار اللغة العربية وضعفها والذي يزداد يوما بعد يوم مع تقدم العاميات العربية والعاميات الجديدة التي تخلط العربية بالإنجليزية أو الفرنسية أو الهندية أو الأسبانية حسب اختلاف الأماكن، عندما يحين لأحد أن يتأوه من عمق الجرح وألمه يرى في نفس الوقت جموع شباب العُرب تقبل على معاهد تعليم اللغة الإنجليزية وكلهم طموح يصحبه تشجيع من كل من حولهم على تعلم “لغة العصر”.
لماذا أصبحت اللغة الإنجليزية لغة العصر وصار لها صولة وجولة في كل مكان بينما تعاني العربية من التدهور السريع حتى أصبح العرب يلومون من لا يتقن لغة أجنبية ويلومون من يتحدث العربية الفصحى ويستنكرون على من يدعو لتدريس الطب أو العلوم الطبيعية بالعربية ويتقبلون فكرة نشرة الأخبار العامية ويرون أن دراسة النحو والبلاغة والصرف ضرب من تضييع الوقت وتحقيق متطلبات المناهج الحكومية التي وضعها أساتذة متبلدون ومستبدون ولماذا صارت لغة الشركات العربية وخبراءها والاجتماعات التجارية هي الإنجليزية وليست العربية؟
لا شك أنه قد توافرت للغة الإنجليزية عوامل انتشار لم تتوافر لأي لغة كبرى أخرى فضلا عن اللغة العربية، وهذه العوامل التي لا تخفى على أحد تبدأ من كون الإنجليزية هي لغة الأقوى في عالم اليوم _ أمريكا وبريطانيا وكندا وأستراليا _ الأمر الذي يفضلها على لغة الأقوياء الآخرين مثل روسيا وفرنسا واليابان.
هي أيضا لغة سهلة ومرنة بالإضافة لكونها جزء من الثقافة الأمريكية التي غزت كل مجتمعات العالم بلا استئذان، تراها بدءا من مطاعم “ماكدونالدز” في ساحات موسكو إلى سجائر “مارلبورو” في غابات غينيا الجديدة الاستوائية، وهي جزء من ثقافة هوليوود التي صارت جزءا لايتجزأ من برنامج “أي” محطة تلفزيونية في العالم.
بعد ذلك جاءت شبكة الإنترنت التي اخترعتها أمريكا وغطت خلاياها بإنتاجها الثقافي بسرعة فاقت الدول الأخرى جميعها مما أوجد لها السيطرة الكاملة على تكنولوجيا المعلومات بشكل عام.
الإنترنت يوجه رسالة لكل الناس تقول: لكي تعيش في عالمنا الحديث لا بد من تعلمك لـ”لغة الإنترنت / لغة العصر / الإنجليزية”، وليست الفرنسية أو الألمانية أو اليابانية أو ….. العربية، أرجوك ألا تقارن هنا بالعربية حتى لا يصيبك الإحباط الشديد وأنت تتذكر المستوى المتواضع لبرامج اللغة العربية الكمبيوترية.
لكن هذا ليس السبب وحده الذي يجيب على سؤالي الذي صدرت به هذه المقالة حول تقدم الإنجليزية وتقهقر العربية.
لنبرهن ذلك دعنا ننظر لمثال “نعوم تشومسكي”، المفكر الأمريكي العملاق.
تشومسكي، قام بدراسة طويلة المدى على مجموعة أطفال درس من خلالها تطور استعمالهم للغة والمفردات وقرر من خلالها أن تركيب اللغة، أي لغة، مرتبط بقواعد نفسية موجودة لدى كل إنسان.
أي أنه في تركيب الإنسان، أو في فطرته كما نقول نحن، هناك ميل طبيعي لوجود اسم وفعل وحرف وتركيب جملة ومضاف ومضاف إليه وهكذا.
هذه النظرية أحدثت ضجة هائلة في الأوساط الأمريكية وساهمت في اعتبار تشومسكي، أحد أعظم مفكري أمريكا في القرن العشرين على الإطلاق وجعل الإقبال عليه في أمريكا أمرا يشبه الخيال إلى درجة أنه لما قررت يوما الاتصال به لاستكتابه في أحد المجلات اعتذر مدير مكتبه أن جدوله اليومي مشغول لأربع سنوات قادمة وأن المجلة تحتاج أن تجدول موعدا لكتابة المقال في ذلك الحين وليس قبله بحال من الأحوال!!
شعبية تشومسكي، كعالم لغوي تأتي أيضا في جزء منها من شعبية الدراسات اللغوية في أمريكا ودراسات تاريخ اللغة، بينما في العالم العربي لا تكاد تجد شخصا متوسط الثقافة _ يحمل شهادة جامعية _ يعرف المقصود بعلوم “فقه اللغة” أو “علم اللغة” فضلا عن أن تجد أقساما لهذا أو كتبا شائعة بين الناس أما تاريخ اللغة فهو أمر يعد من المثاليات التي يتحدث عنها بعض أساتذة فقه اللغة المملين للجميع.
ولعل الأدهي والأمر من ذلك أن نظرية “تشومسكي” نفسها قد جاء بها “ابن جني” قبل قرون في كتابه “الخصائص” ولكن من يعرف في يومنا هذا الخصائص أو ابن جني فضلا عن الاهتمام بكلامه التراثي القديم!!
اللغة كعلم بالنسبة للأمريكيين جزء من منهاجهم الدراسي والحفاظ على اللغة الإنجليزية وشراء عدد من المعاجم فيها عادة تلازم الأمريكيين _ مما يفسر الميزانيات العالية لدور نشر المعاجم _ وتعلم عدد كبير من المفردات والتحدث حسب قواعد اللغة الصحيحة أمر أساسي للأمريكي المثقف وابن العائلة المحترمة.
وإذا كان الأمريكيون كذلك فإن البريطانيون يغالون في ذلك بشكل أكبر بل إنهم دائما ما يحتقرون في الأمريكيين ضعف حفاظهم على الإنجليزية.
هذا يعني أن هناك “وطنية لغوية” تقوى عند المتحدثين بالإنجليزية والفرنسية تجعلهم يبذلون المال والجهد والفكر للحفاظ على لغتهم بينما العرب يعانون من “الخيانة اللغوية” لأنهم لا يكادون يجدون سبيلا للتخلص من لغتهم الفصحى إلا سلكوه بلا حياء.
هذا في رأيي السر الذي يجيب على أسئلتنا كلها.
بالمناسبة فإن تقهقر الفصحى وتقدم العاميات في العربية له إيحاءات خطيرة، فاللغات العربية العامية بالمقاييس الدولية هي لغات مشتقة مستقلة لأن لها تركيبها الخاص إلا أن هذه اللغات بالمعايير نفسها تقع في أسفل السلم لأنها لا تملك قواعد كتابة خاصة وليس لها معجم لغوي وليس لها حتى قواعد نطق وهذا يجعلها تشبه اللغات البدائية.
ولو صدقت النظريات اللغوية المتعددة التي تربط تقدم اللغة بتقدم الفكر والثقافة فإن واقع تقدم العامية السريع على حساب الفصحى يعني ببساطة تخلفا لا حدود له لمعشر العرب فكريا وثقافيا.
العيش في المجتمع الأمريكي والسير في شوارعها يعني أن تدخل مكتبات كبرى فيها ملايين الكتب يقبل عليها الناس بشغف وأن تجد عالما للنشر لا يمكن إعطاء ضخامته حقه من الوصف هنا وتجد كليات تدرس العلوم والطب وغيرها باللغة الإنجليزية بلا ترجمات وأن تجد اهتماما بدراسات اللغة ودراسات الاتصال وعشقا غير عادي يتغلغل في دم كل أمريكي للخطابة والبلاغة وأن تجد الإنجليزية مطمحا لآلاف الطلبة القادمين من كل أنحاء العالم لتعلمها وأن تجدها في عمق كل تكوين ثقافي.
العيش في المجتمعات العربية يعني أن ترى المقابل تماما حيث الشعوب لا تقرأ وحيث هزالة اللغة العربية ومفرداتها والإقبال عليها ولو سارت الأمور على ما هي عليه الآن فربما وجدتنا بعد خمسين سنة مثل أمريكا بالضبط: نتحدث الإنجليزية ونقرأ كتبها كجزء لا بد منه من مكوننا الثقافي بالإضافة لما نفعله الآن من مشاهدة قنواتها التلفزيونية _ إذا كانت لديك القدرة والرقي لشراء محطات مشفرة _ وأكل طعامهما واستهلاك رموزها الثقافية.
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية