في يوم الجمعة الماضي، وفي أحد كبرى مساجد العاصمة الكندية تورنتو، وقف ستيف ماهوني، المرشح لانتخابات مجلس العموم الكندي، بعد انتهاء الصلاة مباشرة ليتحدث لعموم المصلين عن تجربته السياسية.
بدأ ماهوني، حديثه بـ”السلام عليكم” بالعربية، ثم بدأ يعدد إنجازاته لصالح الجالية الإسلامية في كندا، مطالبا المسلمين بترشيحه للانتخابات، لأنه سيعمل على دعم مصالحهم ودعم القضية الفلسطينية.
خارج المسجد، وقفت زوجته كاتي، عضوة مجلس المدينة، وهي تلبس حجابا أبيض، توزع على المصلين والمصليات الخارجين من المسجد بروشورا عن زوجها.
شخص آخر بجانبها وقف يوزع بروشورات لمنافسة ماهوني في الانتخابات كارولين باريش، والتي تتحدث عن مقاومتها الشديدة للحرب على العراق، وعن دعمها غير المحدود للقضية الفلسطينية مع صورة لغلاف كتابها: “واجب البرلمان الكندي نحو فلسطين”، وحديث عن رحلتها التي ترأست فيها وفدا للبرلمان الكندي إلى فلسطين.
بعد انتهاء ماهوني من كلمته، وقف رجل باكستاني في أقصى المسجد وبدأ يشتم ماهوني غاضبا بكلمات غير مفهومة تستنكر دخول “كافر” للمسجد وتؤكد أنه رجل منافق وكذاب، ثم خرج من المسجد غاضبا.
بالنسبة لي، كانت هذه لحظات مؤثرة.
من الجميل أن ترى الجاليات المسلمة والعربية في الغرب قد بدأت في فهم دروس 11 سبتمبر، وبدأت تستفيد من قوتها العددية/الانتخابية، وصارت تركز على التأثير في المؤسسات السياسية المحلية.
المسلمون في الغرب عاشوا لعقود طويلة منعزلين على أنفسهم لخوفهم من السياسة، مطمئنين للحرية الغربية، سعداء بحياتهم المادية، وحائرين أمام مؤسسات السياسة هناك وتعقيداتها وتشعباتها، مضيعين بذلك فرصة نادرة للتأثير في الدول التي تقود العالم، وهذا على ما يبدو بدأ في التغير في دول غربية عديدة.
لكن تجربة مسلمي الغرب قد تعني لنا أكثر من ذلك بكثير. فالعرب اليوم _ كما هو متفق عليه _ يعيشون حيرة هائلة أمام رغبتهم في تطوير بلادهم وأنفسهم.
نحن دول “نامية” تبحث عن بصيص النور الذي يقودنا لآخر الكهف، إلا أن المشكلة إنه ليس لدينا نموذج حديث يقودنا سوى النموذج الغربي.
على الصعيد السياسي، هناك مشكلات كثيرة تجعل التطبيق “الناجح” للديمقراطية الغربية في بلادنا شبه مستحيل، بدءا من إن مفاهيم الديمقراطية الأساسية: حرية الفرد المطلقة، والإيمان الإيجابي بالتعددية، وقبول رأي الأغلبية، والإيمان بالانتخابات كوسيلة وحيدة للتغيير، هي مفاهيم غريبة علينا، وعلى الأقل ليست مركزية في ثقافتنا بما يجعلنا مستعدين لتطبيقها حرفيا والتضحية من أجلها.
إن مفاهيم الثقافة الإسلامية تجري في عروقنا وتجاهل ذلك هو تجاهل لحقيقة تاريخية كبرى لن يؤدي إلا للمزيد من التجارب الفاشلة!
المسلمون في الغرب، والعرب خصوصا، مؤهلون لقيادة تجربة جديدة من نوعها تؤقلم مفاهيم الديمقراطية الغربية لصالح إيجاد نموذج “وسط” صالح للتطبيق في دولنا العربية.
إن المراكز الإسلامية المنتشرة في أوروبا وأمريكا لديها الفرصة لتجرب كل الأفكار السياسية النظرية التي لدينا، لأن كل مركز إسلامي يمثل نموذجا مصغرا للعالم الإسلامي تمتزج فيه مختلف الجنسيات والأعراق والاتجاهات الفكرية والمذهبية، وهذا النموذج المصغر بنشاطه السياسي المحلي يعطينا صورة عما يمكن عمله لدينا.
أضف إلى ذلك، إن البيئة السياسية الغربية المنفتحة تجعل من الممكن التطبيق المباشر والحي لهذه الأفكار والتجارب ومن ثم تقييم آثارها.
في المراكز الإسلامية في أمريكا وكندا وأستراليا وبريطانيا وفرنسا وهولندا وأمريكا اللاتينية وأوروبا وربما اليابان سيمكن للمسلمين أن يجربوا كيف يمكن التعامل مع اختلاف الآراء، كيف يعلمون الناس قبول الاختلاف، والتسامح مع الرأي الآخر، والاستفادة من التعددية، والامتناع عن بناء نظرياتهم على الوهم والاتهام والعاطفة، ويمكنهم أيضا أن يبحثوا عن حلول لمشكلة القيادة لدينا، وكيف يختار القائد، وكيف يمكن وضع حدود لحركة القائد تؤكد عمله الدؤوب لمصلحة جاليته.
العرب في الغرب يمكنهم أن يجلسوا في برلمانات مصغرة يتعلمون النقاش السياسي الناضج والبحث عن الأهداف العقلانية وتنمية الرسالة السياسة وتركيزها، وإيجاد التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجموعة.
أكثر من ذلك، يمكن لهذه البرلمانات المصغرة أن “تستضيف” مفكرينا وعلمائنا وأكاديميينا من مختلف الاتجاهات تبحث معهم كيف يمكن تحويل هذه البرلمانات لصيغ فاعلة متوافقة مع خصوصيات الثقافة العربية وتعاليم الإسلام ومفيدة لمجتمعاتنا الإسلامية على كل حال.
أضف إلى هذا قرب هذه البرلمانات المصغرة من مراكز المعلومات ومراكز التخطيط الاستراتيجي في الغرب مما يجعلهم مؤهلين لطرح مشكلاتنا المعقدة والبحث عن حلول لها وربما تجريبها جزئيا، وخاصة من الناحية الثقافية، ثم إرسال هذه الحلول لعالمنا العربي للتطبيق “في حال مناسبتها لنا بالطبع”.
باختصار شديد، العرب والمسلون في الغرب لديهم الفرصة التاريخية لبناء بيئة اختبار “صحية” و”محايدة” و”علمية” و”متقدمة” في نفس الوقت لتقدم لنا الحل لمئات المشكلات التي نعيشها معشر العرب منذ أكثر من مئة سنة، وحتى تتوقف مسيرة “كل يوم أسوأ من اليوم الذي قبله”، ومن يدري ربما يحصل هذا فعلا!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية