فاجأني رد الفعل السلبي الحاد الذي لقيه مقالي الأسبوع الماضي المعنون بـ”دعونا نلغي العربية ونتحدث الإنجليزية“، ولأؤلئك الذين لم أستطع إيصال رسالتي لهم.
كان المقال يسخر من حالنا الأليم، وبعدنا عن لغتنا العربية، ويسعى لـ”فضح” حقيقة نفوسنا أمام نفوسنا، وأننا في الحقيقة نهتم باللغة الإنجليزية ونفرط في لغتنا الأم، ولذا فربما كان الأصح إذا أردنا التصالح مع نفوسنا أن نتحدث الإنجليزية التي نفرط في حبها على حساب لغتنا، ولكن لأن لغتنا هي السبيل الوحيد للارتباط بقرآننا وتراثنا، اختتمت المقال بسؤالي “لماذا لا نتحدث العربية؟”
لكن بعض القراء لم يفهموا مغزى المقال، وظنوا أنني أدعو حقيقة لإلغاء العربية وتبني الإنجليزية، ولم ينتبهوا لنبض الألم الذي يغلف كل جملة في المقال، أو أنهم لم يقرؤوا المقال حتى آخره، وأرسلوا عشرات الرسائل على بريدي الإلكتروني، كما أرسلوا ردودا للجريدة، وآخرين تبنوا الهجوم على شخصي في المنتديات أو الرد علي بالحكمة والموعظة الحسنة يدافعون فيها عن لغتهم العربية الحسناء، ويؤكدون عظمة اللغة العربية وعشقهم لها وبعضهم أكد تفاؤله بأن الأمور ليست سيئة كما أصورها.
وبالرغم أنني ما زلت أستكشف دافع هذه الردود، وإن كان الأمر حبا في اللغة العربية حقا ودفاعا عنها، أو أنها النخوة العربية التي جرحها المقارنة بين العرب في نفورهم من العربية وبين الغرب في دفاعهم المشرف عن الإنجليزية، إلا أنني كنت سعيدا غاية السعادة بأنه مازال بين الناس من يجول ويصول حين تتعرض العربية للهجوم، وشعرت فعلا بالتفاؤل أنه في يوم من الأيام قد يلتفت الناس للغة التي هجرنا واستبدلنا بها اللهجات العامية الركيكة أو اللغة الإنجليزية، وينظرون إليها نظرة عطف ويبدؤون الحديث باللغة العربية.
في نفس الوقت كنت محبطا لأنني فوجئت أن استخدام الأسلوب الساخر أو البعد عن السياق التقليدي السردي في الكتابة يعرضك لسوء الفهم الحاد أحيانا، ويجعلك توصف بأسوأ الألفاظ التعميمة التي تصنفك ضمن “أعداء الأمة” حسب ما تضمنته الردود التي وصلتني.
لقد كان إحباطي حين كتبت المقال شديدا واليأس يسيطر علي فصرت مثل من “يلعن الظلام”، أما وهناك جماهير مستعدة لإضاءة الشموع، فدعونا نستفيد من تجارب العرب الأوائل وتجارب الغربيين ونضع بعض الأفكار التي ربما توقظ لغتنا العظيمة من السبات العميق، ودعونا نعلنها لحظة البداية لإنهاء “التناقض الغريب” الذي نعيشه كعرب بين عواطفنا التي تتحمس لكل القضايا وبين سلوكياتنا الكسولة السلبية المشغولة بمصالحنا الشخصية فقط.
إذا كان هناك أمل للغة العربية فالأمل في الجيل الجديد، والحل يبدأ في المدرسة التي يجب أن تهتم بالمدرس القادر على شرح دروسه والتعامل مع طلابه باللغة العربية الفصحى، وتشجيع الطلاب على الحديث فيما بينهم بالعربية، والآباء من جهتهم يجب أن يبحثوا عن المدارس التي تقدم هذه الميزة ويرفضوا المدارس التي يتحدث فيها المعلمون باللهجات العامية.
حتى تنجح المدارس لا بد لها من مناهج تساعد رسالتها، والكتب الدراسية دائما مكتوبة بعربية صحيحة، ولكن كتب تعليم اللغة العربية يجب أن تعاد كتابتها من جديد بحيث تصبح قادرة على نقل سحر اللغة العربية وقوتها البلاغية بدلا من التركيز على التعريفات وحفظ القواعد اللغوية.
هذه هي البداية فقط، ولكن بينما يتعلم الأطفال اللغة العربية، لا بد للمجتمع من حركة نهضة لغوية، أو كما يسميها المفكرون الفرنسيون حركة قومية لغوية، يؤمن فيها عموم الناس بأن الحفاظ على اللغة أساس للتقدم الثقافي والفكري، وأن الأمة التي تضيع لغتها تفقد تماسكها وهويتها الثقافية، ويبدأ الناس في تقبل فكرة الحديث مع بعضهم بلغة فصحى _ حتى لو كانت بعض المفردات أو التركيبات عامية _ بل أكثر من ذلك يبدأ الناس في الإيمان بأن هذا هدف يجب أن يتحقق مع الزمن، وأن علينا أن ننشر اللغة العربية خارج حدود الوطن، ونطالب الناس زوار بلادنا بأن يتحدثوا اللغة العربية ويتعلموها ولا نرضى منهم الاستخدام “الباكستاني” لها، بل نطالب بالمزيد من الجهد في التعلم والكثير من الاحترام.
في نفس الوقت، لا بد أن ينفض اللغويون الغبار عن مكاتبهم ويبدأ العمل الجاد لإحياء اللغة العربية من خلال إنشاء جمعيات تعمل ليل نهار لنشر اللغة العربية، ومجامع تسهر على ترجمة الكلمات وتعريبها، وأقسام أكاديمية تعمل على تسهيل اللغة وحل معضلاتها، ولهذا كله يحتاج الجميع “اللغويون والناس” لروح مرنة تتقبل التغيير والتطوير ولا يحيطها الجمود ولا يشغلها اختلافات مدرستي البصرة والكوفة حول استخدامات “حيث” وإعراب “الأسماء الخمسة”.
حينها ستنمو “الوطنية اللغوية” كما يسميها علماء اللغة الأمريكيون، وحينها فقط ستتحول هذه الجهود لكرة ثلج تكبر شيئا فشيئا حتى تصبح اللغة العربية حقيقة واقعة تفرض نفسها وترفع مستوانا الثقافي والأدبي والفكري.
إنني سعيد للأثر العكسي الذي أحدثه مقالي الأسبوع الماضي، وستتملكني سعادة لا وصف لها كما ستتملك ملايين العرب حين تنمو لغتنا العربية، وربما أجرب الأثر العكسي لاحقا في مقالات أعنونها “دعونا نكره القراءة”، “دعونا نحتقر العلم”، “دعونا نرفض الحضارة” أو على الأقل “دعونا نتسرع في الأحكام وإطلاق التعميمات”.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية