الوجه الإيجابي لـ«نظرية المؤامرة»: عندما تغاضينا عن مبررات الدمار

من قسم منوعات
الخميس 25 نوفمبر 2004|

فجع المسلون في هولندا بما حصل لهم فجأة من تغير في تعامل الدولة والناس معهم إبان مقتل المخرج فان جوخ، بطريقة بشعة على يد أحد المسلمين الذي أزعجه فيلم لهذا المخرج أساء فيه للإسلام، حسب ما تقول التقارير.

النتيجة: هذا لا يمكن إلا أن يكون مؤامرة من أولئك الذين يريدون الإساءة للمسلمين في أوروبا وإدخالهم في “مسلسل الإرهاب”.

نفس النتيجة توصل إليها ملايين المسلمين والعرب إزاء أحداث سبتمبر وأحداث مدريد والقضية الفلسطينية وغزو صدام حسين، للكويت والحرب العراقية الإيرانية وربما حتى خطاب أسامة بن لادن، الأخير الذي يقال بأنه ساعد بوش، في كسب الانتخابات في 2 نوفمبر الماضي.

وربما يتفق الكثير من القراء أن “نظرية المؤامرة” أصبحت تقليدا شعبيا في أوساط العرب والمسلمين الذين يهولهم تكالب الأمم عليهم بسبب ما صنعته أيديهم.

وقد تحدثت في مقال سابق عن الآثار السلبية المتعددة والضخمة عن انتشار ثقافة تعليق أخطاءنا على شماعة الآخرين وتحميلهم مسؤولية آثامنا التي نقترفها بأيدينا، وعن تناقض هذه الثقافة من أبسط مبادئ المنطق ومع ما كان يفعله المسلمون في القرون الأولى، ومع الثقافة السياسية العالمية الموجودة اليوم.

لكن هذا بالطبع لا يمنع من الإيمان بأن هناك من يجلس على الجهة الأخرى من رقعة الشطرنج، يخطط على المدى القصير والبعيد، ويستخدم كل الأساليب بلا استثناء لإيقاع أحجارنا الواحدة بعد الأخرى، بما في ذلك تقديم الطعم الذي يجعلنا نحرك أحجارنا بلا حذر، وينتهي بنا في مصيدة الهزيمة.

هناك من يتآمر ضدنا بلا شك عندما تخدم هذه المؤامرة مصالحه، وهذه قاعدة مقدسة في واقع السياسة القائمة على المصالح والاستراتيجيات فقط بغض النظر عن المبادئ. 

إن رفضنا لنظرية المؤامرة لا يعني إنكار وجود الآخر المتآمر، ولكن المرفوض هو استخدام هذا الآخر لتبرير أخطاءنا، وإطلاق الأحكام والتعميمات بدون أدلة وحقائق أكيدة.

وإيماننا بوجود الآخر المتآمر علينا _ وهو أمر يكاد يتفق عليه الجميع _ يعني بالضرورة أخذ الحذر منه والانتباه لخطواته وتوقع ضرباته حتى لا نقع في المصائد التي نقع فيها عادة.

في السنوات الأخيرة تغير أوضاع العرب والمسلمين على الصعيد السياسي والاستراتيجي، وصار حالنا مزريا مثيرا للشفقة مع الإيمان العالمي بأننا نتحمل مسؤولية موجات الإرهاب التي تصاعدت في التسعينات إلى أن وصلت أقصى مداها في 11 سبتمبر، ثم تصاعدت مرة أخرى في العراق.

البعض يدعي بأن هذه أجندة “خبيثة” لإيجاد أحداث إرهابية ونسبتها لأسامة بن لادن، وأبي مصعب الزرقاوي، وأتباعهم، وتحميلنا مسؤوليتها بحكم انتمائهم من ناحية الدين والأصل للعرب والمسلمين.

وسواء صدقنا هذا الإدعاء _ الذي لا توجد عليه أدلة كافية _ أو لم نصدقه، فهناك فكرة واحدة أساسية قد نستطيع الاتفاق عليها: لقد تغاضينا طويلا عن قادة الفكر المتطرف وفكر العنف من بني جلدتنا، وأعطيناهم المبررات للغضب وعدم العقلانية التي تمتلأ بها شرايينهم، وسكتنا على تجمعاتهم، وعلى خطابهم السياسي الذي امتلأت به المجالس وخطب الجمعة ووسائل الإعلام، وكانت نتيجة هذا التغاضي أن امتدت الأمور خارج السيطرة، وصرنا مسؤولين أمام كل العالم عن هؤلاء الذين قد لا يوافق أكثر الناس على أفعالهم.

الأمر تماما يشبه تلك الأسرة التي رأت أحد أبناءها يقترف الخطأ بعد الآخر، وهم يقدمون له المبررات ويتغاضون عنه ببسبب العاطفة، ثم لما قام هذا الابن بجريمة نكراء ما، أصاب العار سمعة الأسرة كلها، أو كما شبه الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك بالقوم الذين ركبوا سفينة ورأوا بعض ركابها يفتحون شرخا في السفينة فلما تركوهم، أيا كان المبررات، غرقت السفينة وغرق الجميع معها.

لقد أصاب مسلمي هولندا ما أصاب الكثير من الدول والجاليات الإسلامية التي رأت تلك الفئات المتطرفة تتغلغل بين ظهرانيها وتستخدم منابرها وأحيانا تتولى قيادة مناشط الجالية، وسكتنا طويلا على هذه الفئات لاستخدامها الخطاب الديني ولكونها تتحدث كثيرا عن قضايا سياسية تهمنا جميعا مثل القضية الفلسطينية وغيرها، ودفع الجميع الثمن غاليا عن هذا السكوت.

إننا في زمن مختلف عن الأزمان السابقة، زمن ثورة المعلومات حيث كل شيء محفوظ وموثق، وبالتالي فالنسيان غير ممكن، وكل الأشياء تربط ببعضها، وسقوط المطر في هولندا يجعلنا جميعا نرفع المظلات قبل أن تسقط علينا الحمم.

هذا الزمن هو الذي يجعلنا نهتم بتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين نأخذ على أيدي سفهاءنا، ونمنعهم من الإساءة إلينا مهما كانت مبرراتهم لأنها على المدى الطويل مبررات دمار وغرق للسفينة بكل ركابها.

إن ما يثير استغرابي دائما أن أكثر من يعطي الآخرين الفرصة للهجوم علينا، هم أكثر من يتحدثون عن أهمية نشر الإسلام، وأتساءل إن كان هناك أحد لا يدرك أن قضية نشر الإسلام حول العالم تراجعت كثيرا لما امتزجت بدماء الأبرياء وصار اسمنا ملاصقا للعنف والقسوة والعناد.

لو راقبنا كيف تتصرف الجالية اليهودية حول العالم إزاء هذه القضية لتملكنا العجب، فهم حريصون على الدفاع عن أنفسهم ضد أي كلمة تثار ضدهم، وحريصون كل الحرص على منع اليهود المتطرفين _ وما أكثرهم _ على تملك وسائل الإعلام والسيطرة عليها، والأهم من ذلك يراقبون كل صغيرة وكبيرة في العالم ليتأكدوا أنها لن تستخدم يوما ضدهم.

إذا كنا نؤمن بوجود من يتآمر علينا، فإن الأولى لنا أن نمنع وجود أي مبرر صغر أم كبر قد يستخدمه المتآمر علينا، علينا أن نسد كل الثغرات وكل الفجوات، لقد أكد الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن كل مسلم واقف على ثغرة، وحذر من أن يؤتى الإسلام من الثغرة التي يقف عليها أحدنا، وأظننا قد تهاونا طويلا في حماية الثغرات وسمحنا للأعداء أن يتلاعبوا بنا بسبب كل مبررات الدمار التي قدمناها لهم.

إذا كنت تؤمن بنظرية المؤامرة، فالمنطق يستدعي ألا نستمر في تعليق أخطاءنا على شماعات الآخرين، بقدر ما نسعى لمنع المبررات، وإن كنت ترى الحقيقة بجلاء وأن الأمر متعلق بحماقاتنا أكثر من أي شيء آخر، فالأولى أن نبدأ التفكير طويلا والتخطيط والعمل الجاد لوضع حد أخير لهذه الحماقات، ولعل.. وعسى..!!

لحظة صمت: تخيل إحباط الجالية الإسلامية في كندا، عندما وجدوا الأسبوع الماضي سائق تاكسي عراقي قد قتل وقطعت عنقه من الأذن للأذن، وبدؤا جميعا يتحدثون عن العنصرية ضد العرب في كندا، وأن هناك من ينتقم من الأبرياء، وصاروا يطالبون الحكومة الكندية بحمايتهم، ثم اكتشفت الشرطة في اليوم التالي أن من اقترف الجريمة هما شابان عراقيان آخران بدواعي شخصية، وحينها صار يردد الكنديون: وحدهم العرب الذين يمكنهم أن يقتلوا بهذه الطريقة البشعة.

تخيل فقط حال العرب في كندا بعد هذه القصة.

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية