من يستعرض الكتب المؤلفة عن تاريخ العالم العربي المعاصر الموجودة في المكتبات الأمريكية يجد أن الكثير منها صادر عن “مركز موشي ديان لدراسات الشرق الأوسط”، بجامعة تل أبيب.
هذه الكتب التي وضعت بلغة البحث العلمي وصارت مصدرا للباحثين عن العالم العربي في أمريكا وأوروبا هدفت في الأساس إلى الفهم الأعمق لأحوال العالم العربي وثقافته وتاريخه وتشكيل شخصيته، لأن المعلومات هي أهم قاعدة لصناعة القرار، ويبدو أن إسرائيل تتقن بالفعل كيف تصدر قرارات مصيرية في علاقتها بالعالم العربي لتنجح دائما في الوصول إلى ما تصبو إليه.
بالمقابل؛ فإن معلومات العالم العربي قليلة جدا عن إسرائيل وثقافتها بالرغم من المواجهة التي دامت أكثر من خمسين عاما، ولولا فضل الله الذي سخر بعض الباحثين الذين عملوا بجهود فردية لإصدار كتب ودراسات عن إسرائيل لبقينا في زاوية معتمة تماما.
ويمكنك أن ترى أثر جهلنا بالثقافة الإسرائيلية عدم قدرتنا على فهم الكثير من الأسئلة التي تتعلق بفئات الشعب اليهودي حول العالم، والفرق بين الصهيوني وغير الصهيوني، والفرق بين العلماني والمتدين، وأعتقد جازما أن فئات اليهود في الغرب التي ترى أن وجود إسرائيل وجود غير شرعي و”كفر مخرج عن ديانة اليهودية”، أو تلك التي ترى أن الصهيونية حركة ظلم وعنصرية ضد اليهود والفلسطينيين في آن واحد، هذه الفئات لو استقطبت ووظفت إعلاميا لكان شئ من وجه المعادلة “العربية – الاسرائيلية” قد تغير.
هذا ينطبق على مدينة القدس الحبيبة التي تهتز عواطفنا كلها نحوها، ومع ذلك فنحن بالكاد نفرق بين المسجد الأقصى ومسجد القبلة، ونسمع أسماء مثل حائط البراق وحائط المبكى وهيكل سليمان وغيرها من المصطلحات ونحن لا نعرف بالضبط ماذا يريد اليهود المتطرف منهم والمعتدل إلا إذا ثارت إشكالية ما في محادثات “الدهر” مع إسرائيل فتنطلق وسائل الإعلام لتعلمنا شيئا ما عنها.
أكثر من ذلك لقد استطاعت الحركة الصهيونية العالمية بأساليب بعضها مدهش التأثير في كتابة التاريخ فكتب تاريخ القدس وفلسطين ودرس في مختلف أنحاء العالم بشكل يخدم المصالح الصهيونية والإسرائيلية، بينما العالم العربي مازال غافلا عن ذلك وعاجزا عن تقديم حججه المقابلة بشكل علمي موضوعي مقنع للعالم من حولنا.
تاريخ القدس بالنسبة للعالم بدأ منذ اليوم الذي أمر فيه إبراهيم بذبح ابنه إسحاق، وهي القصة نفسها التي نعرفها عن إسماعيل عليه السلام، ولكن القصة هنا حصلت لإسحاق وحصلت في القدس وليس مكة المكرمة.
من هنا بدأت الحركة الصهيونية تركز على أحقية الشعب اليهودي قبل غيره بالقدس من نواحي دينية بحتة، والتي قرر العالم احترامها في بدء هذا القرن ومنح هذه الأرض لليهود.
كتب المناهج الدراسية في أمريكا _ وهو نفسه ما يدرس في الكنائس المسيحية _ تتحدث عن معركة حصلت بين داود عليه السلام، وبين الفلسطينيين الذين هزموا في المعركة، وقام بعدها داود عليه السلام، ببناء المدينة، ولكن داود عليه السلام _ حسب الرواية اليهودية _ ارتكب معصية تفضيل رأي رجاله على رأي الله عز وجل، فأمر الله _ سبحانه وتعالى عما يفتري الظالمون _ ملكا لتدمير القدس، ولكن الملك شعر بالأسف للمدينة فنصح داود عليه السلام، ببناء بيت لله سبحانه، وهكذا كان وجاء داود، لنفس المكان الذي أراد إبراهيم عليه السلام، أن يذبح فيه إسحاق، فقرر بناء بيت الله وقدم القرابين هناك ليرسل الله نارا من السماء فتأخذها علامة قبول لقرابينه وغفران له ولرجاله.
تمضي الرواية بعد ذلك لتقول أنه في عام 1015 قبل الميلاد، أي قبل 3000 سنة وهو طبعا الرقم الذي يلعب عليه اليهود دائما دعائيا، قام سليمان عليه السلام، ببناء الهيكل العظيم في ذلك المكان خلال سبع سنوات، قام بذلك 183.300 رجل، وتقدم الروايات اليهودية والمسيحية وصفا مفصلا للهيكل ومخططه وعمرانه من خلال تفسير بعض العبارات الموجودة في التلمود والتوراة والإنجيل.
في عام 516 قبل الميلاد _ حسب الرواية اليهودية _ جاء نبوخذ نصر، وهدم القدس والهيكل وشتت سكان المدينة بعد أن قتل منهم من قتل.
هذه القصة نقلت للمسيحية كما هي من خلال المؤسسات التعليمية ومراكز الأبحاث المسيحية المتعددة التي أنشأتها ومولتها الحركة الصهيونية _ ومازالت _ واستطاعت بشكل رهيب تغيير الفكر المسيحي جذريا نحو القدس، حتى أن الحركة المسيحية في أمريكا متجهة بقياداتها _ وليس عموم رجال الدين فيها _ لإقناع الناس كل يوم أن القدس حق للشعب اليهودي لا يمكن التدخل فيه، بل أكثر من ذلك أن الإنجيل يؤكد أن عيسى عليه السلام، لن يعود للأرض مرة أخرى لإعادة المجد للدين المسيحي إلا إذا عادت القدس لـ”أبناء الله” (تعالى سبحانه وتعالى علوا عظيما الواحد الأحد) وهم الشعب اليهودي طبعا.
ومن خلال ذلك تجمع الكنائس المسيحية كل عام ملايين الدولارات التي تعطى في حفلات مهيبة للحركة الصهيونية دليلا على دعم المسيحية لتحقيق وعد الله لليهود.
* نُشر في مجلة المعرفة السعودية